المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام والرق


اشرف محمد
19-05-2007, 10:53 PM
الإسلام والرق

كتبه : محمد قطب


ربما كانت هذه الشبهة أخبث ما يلعب به الشيوعيون لزلزلة عقائد الشباب!.. لو كان‎ ‎الإسلام ‏صالحاً لكل عصر – كما يقول دعاته – لما أباح الرق.. وإن إباحته للرق.. وإن‎ ‎إباحته للرق ‏لدليل قاطع على أن الإسلام قد جاء لفترة محدودة، وأنه أدى مهمته وأصبح‎ ‎في ذمة التاريخ‎!



وإن الشباب المؤمن ذاته لتساوره بعض الشكوك! كيف أباح‎ ‎الإسلام الرق؟ هذا الدين الذي لا شك ‏في نزوله من عند الله، ولا شك في صدقه، وفي أنه‎ ‎جاء لخير البشرية كلها في جميع أجيالها.. ‏كيف أباح الرق؟ الدين الذي قام على‎ ‎المساواة الكاملة. الذي رد الناس جميعاً إلى أصل واحد، ‏وعاملهم على أساس هذه‎ ‎المساواة في الأصل المشترك.. كيف جعل الرق جزءاً من نظامه وشرع ‏له؟ أَوَ يريد الله‎ ‎للناس أن ينقسموا أبداً إلى سادة وعبيد؟ أَوَ تلك مشيئته في الأرض؟ أَوَ يرضى الله‎ ‎للمخلوق الذي أكرمه إذ قال: " ولقد كرمنا بني آدم " أن يصير طائفة منه سلعة تباع‎ ‎وتشترى كما ‏كان الحال مع الرقيق؟ وإذا كان الله لا يرضى بذلك، فلماذا لم ينص كتابه‎ ‎الكريم صراحة على ‏إلغاء الرق كما نص على تحريم الخمر والميسر والربا وغيرها مما‎ ‎كرهه الإسلام؟‎

وإن الشباب المؤمن ليعلم أن الإسلام دين الحق، ولكنه‎ ‎كإبراهيم: " قال: أولم تؤمن؟ قال بلى، ‏ولكن ليطمئن قلبي‎! ".

أما الشباب الذي‎ ‎أفسد الاستعمار عقله وعقائده، فإنه لا يتلبث حتى يتبين حقيقة الأمر، وإنما يميل ‏به‎ ‎الهوى فيقرر دون مناقشة أن الإسلام نظام عتيق قد استنفد أغراضه‎!

وأما‎ ‎الشيوعيون خاصة فأصحاب دعاوى " علمية " مزيفة، يتلقونها من سادتهم هناك، فينتفشون‎ ‎بها عجبا ً، ويحسبون أنهم وقعوا على الحقيقة الأبدية الخالدة التي لا مراء فيها ولا‎ ‎جدال، وهي ‏المادية الجدلية، التي تقسم الحياة البشرية إلى مراحل اقتصادية معينة لا‎ ‎معدى عنها ولا محيص. ‏وهي الشيوعية الأولى، والرق، والإقطاع، والرأسمالية، والشيوعية‎ ‎الثانية (وهي نهاية العالم!) ‏وأن كل ما عرفته البشرية من عقائد ونظم وأفكار، إنما‎ ‎كانت انعكاساً للحالة الاقتصادية، أو ‏للطور الاقتصادي القائم حينئذ، وأنها صالحة‎ ‎له، متلائمة مع ظروفه، ولكنها لا تصلح للمرحلة ‏التالية التي تقوم على أساس اقتصادي‎ ‎جديد. وأنه – من ثم – لا يوجد نظام واحد يمكن أن يصلح ‏لكل الأجيال. وإذا كان‎ ‎الإسلام قد جاء والعالم نهاية فترة الرق ومبادئ فترة الإقطاع، فقد جاءت ‏تشريعاته‎ ‎وعقائده ونظمه ملائمة لهذا القدر من التطور، فاعترفت بالرق، وأباحت الإقطاع [11‏‎]! ‎ولم يكن في طوق الإسلام أن يسبق التطور الاقتصادي، أو يبشر بنظام جديد لم تتهيأ بعد‎ ‎إمكانياته ‏الاقتصادية! لأن كارل ماركس قال إن هذا مستحيل‎!

ونريد هنا أن نضع‎ ‎المسألة في حقيقتها التاريخية والاجتماعية والنفسية، بعيداً عن الغبار الذي ‏يثيره‎ ‎هؤلاء وأولئك، فإذا حصلنا على حقيقة موضوعية فلا علينا حينئذ من دعاوي المنحرفين، و‎ ‎‎" ‎العلماء " المزيفين‎!

نحن ننظر اليوم إلى الرق في ظروف القرن العشرين،‎ ‎وننظر إله في ضوء الشناعات التي ‏ارتكبت في عالم النخاسة، والمعاملة الوحشية البشعة‎ ‎التي سجلها التاريخ في العالم الروماني ‏خاصة، فنستفظع الرق، ولا تطيق مشاعرنا أن‎ ‎يكون هذا اللون من المعاملة أمراً مشروعاً يقره ‏دين أو نظام. ثم تغلب علينا‎ ‎انفعالات الاستبشاع والاستنكار فنعجب كيف أباح الإسلام الرق، وكل ‏توجيهاته‎ ‎وتشريعاته كانت ترمي إلى تحرير البشر من العبودية في جميع ألوانها وأشكالها، ‏ونتمنى‎ ‎في حرارة الانفعال أن لو كان الإسلام قد أراح قلوبنا وعقولنا فنص على تحريمه بالقول‎ ‎الصريح‎.

وهنا وقفة عند حقائق التاريخ. ففظائع الرق الروماني في العالم‎ ‎القديم لم يعرفها قط تاريخ ‏الإسلام، ومراجعة بسيطة للحالة التي كان يعيش عليها‎ ‎الأرقاء في الإمبراطورية الرومانية، كفيلة ‏بأن ترينا النقلة الهائلة التي نقلها‎ ‎الإسلام للرقيق، حتى لو لم يكن عمل على تحريره – وهذا غير ‏صحيح‎!

كان الرقيق‎ ‎في عرف الرومان " شيئا " لا بشرا. شيئا لا حقوق له البتة، وإن كان عليه كل ثقيل ‏من‎ ‎الواجبات. ولنعلم أولا من أين كان يأتي هذا الرقيق. كان يأتي من طريق الغزو. ولم‎ ‎يكن هذا ‏الغزو لفكرة ولا لمبدأ‏‎.

وإنما كان سببه الوحيد شهوة استعباد الآخرين‎ ‎وتسخيرهم لمصلحة الرومان‎.

فلكي يعيش الروماني عيشة البذخ والترف، يستمتع‎ ‎بالحمامات الباردة والساخنة، والثياب الفاخرة، ‏وأطايب الطعام من كل لون، ويغرف في‎ ‎المتاع الفاجر من خمر ونساء ورقص وحفلات ‏ومهرجانات، كان لا بد لكل هذا من استعباد‎ ‎الشعوب الأخرى وامتصاص دمائها. ومصر مثل ‏لذلك حين كانت في قبضة الرومان، قبل أن‎ ‎يخلصها من نيرهم الإسلام. إذ كانت حقل قمح ‏للإمبراطورية، وموردا للأموال‎.

في‎ ‎سبيل هذه الشهوة الفاجرة كان الاستعمار الروماني، وكان الرق الذي نشأ من ذلك‏‎ ‎الاستعمار. ‏أما الرقيق فقد كانوا – كما ذكرنا – أشياء ليس لها كيان البشر ولا حقوق‏‎ ‎البشر. كانوا يعملون في ‏الحقول وهم مصفدون في الأغلال الثقيلة التي تكفي لمنعهم من‎ ‎الفرار. ولم يكونوا يُطْعَمون إلا ‏إبقاء على وجودهم ليعملوا، لا لأن من حقهم – حتى‏‎ ‎كالبهائم والأشجار – أن يأخذوا حاجتهم من ‏الغذاء. وكانوا – في أثناء العمل – يساقون‏‎ ‎بالسوط، لغير شيء إلا اللذة الفاجرة التي يحسها السيد ‏أو وكيله في تعذيب هذه‎ ‎المخلوقات. ثم كانوا ينامون في " زنزانات " مظلمة كريهة الرائحة تعيث ‏فيها الحشرات‎ ‎والفئران، فيلقون فيها عشرات عشرات قد يبلغون خمسين في الزانزانة الواحدة‎ – ‎بأصفادهم – فلا يتاح لهم حتى الفراغ الذي يتاح بين بقرة وبقرة في حظيرة‏‎ ‎الحيوانات‎.

ولكن الشناعة الكبرى كانت شيئاً أفظع من كل ذلك، وأدل على‎ ‎الطبيعة الوحشية التي ينطوي ‏عليها ذلك الروماني القديم، والتي ورثها عنه الأوربي‎ ‎الحديث في وسائل الاستعمار والاستغلال‎.

تلك كانت حلقات المبارزة بالسيف‎ ‎والرمح، وكانت من أحب المهرجانات إليهم، فيجتمع إليها ‏السادة وعلى رأسهم الإمبراطور‎ ‎أحياناً، ليشاهدوا الرقيق يتبارزون مبارزة حقيقية، توجه فيها ‏طعنات السيوف والرماح‎ ‎إلى أي مكان في الجسم بلا تحرز ولا احتياط من القتل. بل كان المرح ‏يصل إلى أقصاه،‎ ‎وترتفع الحناجر بالهتاف والأكف بالتصفيق، وتنطلق الضحكات السعيدة العميقة ‏الخالصة‎ ‎حين يقضي أحد المتبارزين على زميله قضاء كاملاً، فيلقيه طريحاً على الأرض فاقد‎ ‎الحياة‎!

ذلك كان الرقيق في العالم الروماني. ولا نحتاج أن نقول شيئاً عن‏‎ ‎الوضع القانوني للرقيق عندئذ، ‏وعن حق السيد المطلق في قتله وتعذيبه واستغلاله دون‎ ‎أن يكون له حق الشكوى، ودون أن تكون ‏هناك جهة تنظر في هذه الشكوى أو تعترف بها،‎ ‎فذلك لغو بعد كل الذي سردناه‎.

ولم تكن معاملة الرقيق في فارس والهند‎ ‎وغيرها، تختلف كثيراً عما ذكرنا من حيث إهدار إنسانية ‏الرقيق إهداراً كاملا ً،‎ ‎وتحميله بأثقل الواجبات دون إعطائه حقاً مقابلها، وإن كانت تختلف فيما ‏بينها قليلاً‎ ‎أو كثيراً في مدى قسوتها وبشاعتها‎.

ثم جاء الإسلام‎ …‎
جاء ليرد لهؤلاء البشر إنسانيتهم.جاء ليقول للسادة عن الرقيق‎:

‎" ‎بعضكم من‎ ‎بعض " [12] جاء ليقول: " من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه، ومن ‏أخصى عبده‎ ‎أخصيناه " [13] جاء ليقرر وحدة الأصل والمنشأ والمصير: " أنتم بنو آدم وآدم من ‏تراب‎ " [14]‎، وأنه لا فضل لسيد على عبد لمجرد أن هذا سيد وهذا عبد. وإنما الفضل للتقوى‎: ‎‎" ‎ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا أحمر‎ ‎على أسود إلا بالتقوى " [15‏‎].

جاء ليأمر السادة أمراً أن يحسنوا معاملتهم‎ ‎للرقيق: " وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى واليتامى ‏والمساكين والجار ذي القربى،‎ ‎والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت ‏أيمانكم إن الله لا يحب من‎ ‎كان مختالاً فخوراً " [16] وليقرر أن العلاقة بين السادة والرقيق ليست ‏علاقة‎ ‎الاستعلاء والاستعباد، أو التسخير أو التحقير، وإنما هي علاقة القربى والأخوة‎. ‎فالسادة " ‏أهل " الجارية يُستأذنون في زواجها: " فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم‎ ‎المؤمنات والله أعلم ‏بإيمانكم. بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن، وآتوهن أجورهن‎ ‎بالمعروف " [17]، وهم ‏إخوة للسادة: " إخوانكم خولكم.. فمن كان " أخوه " تحت يده‎ ‎فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما ‏يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم‎ " [18] ‎وزيادة في رعاية مشاعر الرقيق ‏يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم‎: " ‎لايقل أحدكم: هذا عبدي وهذه أمتي، وليقل: فتاي ‏وفتاتي " [19] ويستند على ذلك أبو‎ ‎هريرة فيقول لرجل ركب وخلفه عبده يجري: " احمله خلفك، ‏فإنه أخوك، وروحه مثل روحك‎ ".

ولم يكن ذلك كل شئ. ولكن ينبغي قبل أن ننتقل إلى الخطوة التالية أن نسجل‎ ‎القفزة الهائلة التي ‏قفزها الإسلام بالرقيق في هذه المرحلة‎.

لم يعد الرقيق‎ " ‎شيئاً ". وإنما صار بشراً له روح كروح السادة. وقد كانت الأمم الأخرى كلها‎ ‎تعتبرالرقيق جنساً آخر غير جنس السادة، خلق ليستعبد ويستذل، ومن هنا لم تكن ضمائرهم‎ ‎تتأثم ‏من قتله وتعذيبه وكيه بالنار وتسخيره في الأعمال القذرة والأعمال الشاقة [20‏‎] ‎ومن هنالك رفعه ‏الإسلام إلى مستوى الأخوة الكريمة، لا في عالم المثل والأحلام، بل‎ ‎في عالم الواقع. ويشهد ‏التاريخ - الذي لم ينكره أحد، حتى المتعصبون من كتاب أوربا‎ - ‎بأن معاملة الرقيق في صدر ‏الإسلام بلغت حداً من الإنسانية الرفيعة لم تبلغه في أي‎ ‎مكان آخر. حداً جعل الرقيق المحررين ‏يأبون مغادرة سادتهم السابقين - مع أنهم يملكون‏‎ ‎ذلك بعد أن تحرروا اقتصادياً وتعودوا على ‏تحمل تبعات أنفسهم - لأنهم يعتبرونهم‏‎ ‎أهلاً لهم، يربطهم بهم ما يشبه روابط الدم! وأصبح الرقيق ‏كائناً إنسانياً له كرامة‎ ‎يحميها القانون، ولا يجوز الاعتداء عليها بالقول ولا بالفعل. فأما القول فقد ‏نهى‎ ‎صلى الله عليه وسلم السادة عن تذكير أرقائهم بأنهم أرقاء. وأمرهم أن يخاطبوهم بما‎ ‎يشعرهم بمودة الأهل وينفي عنهم صفة العبودية، وقال لهم في معرض هذا التوجيه: " إن‎ ‎الله ‏ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم " [21] فهي إذن مجرد ملابسات عارضة جعلت‎ ‎هؤلاء رقيقاً، ‏وكان من الممكن أن يكونوا سادة لمن هم اليوم سادة! وبذلك يغض من‎ ‎كبرياء هؤلاء، ويردهم إلى ‏الآصرة البشرية التي تربطهم جميعاً، والمودة التي ينبغي‎ ‎أن تسود علاقات بعضهم ببعض. وأما ‏الاعتداء الجسدي فعقوبته الصريحة هي المعاملة‎ ‎بالمثل: " ومن قتل عبده قتلناه.. " وهو مبدأ ‏صريح الدلالة على المساواة الإنسانية‎ ‎بين الرقيق والسادة، وصريح في بيان الضمانات التي يحيط ‏بها حياة هذه الطائفة من‎ ‎البشر - التي لا يخرجها وضعها العارض عن صفتها البشرية الأصيلة ‏‏- وهي ضمانات كاملة‏‎ ‎ووافية، تبلغ حداً عجيباً لم يصل إليه قط تشريع آخرمن تشريعات الرقيق ‏في التاريخ‎ ‎كله، لا قبل الإسلام ولا بعده، إذ جعل مجرد لطم العبد في غير تأديب (وللتأديب حدود‎ ‎مرسومة لا يتعداها ولا يتجاوز على أي حال ما يؤدب به السيد أبناءه) مبرراً شرعياً‎ ‎لتحرير ‏الرقيق‎.‎
‎* * *‎

ثم ننتقل إلى‎ ‎المرحلة التالية، مرحلة التحرير الواقعي‎.

لقد كانت الخطوة السابقة في الواقع‎ ‎تحريراً روحياً للرقيق، برده إلى الإنسانية ومعاملته على أنه ‏بشر كريم لا يفترق عن‎ ‎السادة من حيث الأصل، وإنما هي ظروف عارضة حدت من الحرية ‏الخارجية للرقيق في‎ ‎التعامل المباشر مع المجتمع، وفيما عدا هذه النقطة كانت للرقيق كل حقوق ‏الآدميين‎.

ولكن الإسلام لم يكتف بهذا، لأن قاعدته الأساسية العظمى هي المساواة‎ ‎الكاملة بين البشر، وهي ‏التحرير الكامل لكل البشر. ولذلك عمل فعلاً على تحرير‎ ‎الأرقاء، بوسيلتين كبيرتين: هما العتق ‏والمكاتبة‎.

فأما العتق فهو التطوع من‎ ‎جانب السادة بتحرير من في يدهم من الأرقاء، وقد شجع الإسلام على ‏ذلك تشجيعاً‎ ‎كبيراً، وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى في ذلك إذ أعتق من‎ ‎عنده من الأرقاء، وتلاه في هذا أصحابه، وكان أبو بكر ينفق أموالاً طائلة في شراء‎ ‎العبيد من ‏سادة قريش الكفار، ليعتقهم ويمنحهم الحرية ؛ وكان بيت المال يشتري العبيد‎ ‎من أصحابهم ‏ويحررهم كلما بقيت لديه فضلة من مال. قال يحيى بن سعيد: " بعثني عمر بن‎ ‎عبد العزيز على ‏صدقات إفريقية، فجمعتها ثم طلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد فقيراً‎ ‎ولم نجد من يأخذها منا، فقد ‏أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها عبيداً‎ ‎فأعتقتهم‎".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتق من الأرقاء من يعلم عشرة من‎ ‎المسلمين القراءة والكتابة، ‏أويؤدي خدمة مماثلة للمسلمين. ونص القرآن الكريم على أن‎ ‎كفارة بعض الذنوب هي عتق ‏الرقاب. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على العتق‎ ‎تكفيراً عن أي ذنب يأتيه الإنسان، ‏وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم،‎ ‎فالذنوب لا تنقطع، وكل ابن آدم خطاء كما يقول ‏الرسول. ويحسن هنا أن نشير إشارة خاصة‎ ‎إلى إحدى هذه الكفارات لدلالتها الخاصة في نظرة ‏الإسلام إلى الرق، فقد جعل كفارة‎ ‎القتل الخطأ دية مسلمة إلى أهل القتيل وتحرير رقبة: " ومن ‏قتل مؤمناً خطأ فتحرير‎ ‎رقبة مؤمنة ودية مسلَّمة إلى أهله " [22] والقتيل الذي قتل خطأ هو روح ‏إنسانية قد‎ ‎فقدها أهلها كما فقدها المجتمع دون وجه حق، لذلك يقرر الإسلام التعويض عنها من‎ ‎جانبين: التعويض لأهلها بالدية المسلمة لهم، والتعويض للمجتمع بتحرير رقبة مؤمنة‎! ‎فكأن ‏تحرير الرقيق هو إحياء لنفس إنسانية تعوض النفس التي ذهبت بالقتل الخطأ. والرق‎ ‎على ذلك ‏هو موت أو شبيه بالموت في نظر الإسلام، على الرغم من كل الضمانات التي أحاط‎ ‎بها الرقيق، ‏ولذلك فهو ينتهز كل فرصة " لإحياء " الأرقاء بتحريرهم من الرق‎ [23]!

ويذكر التاريخ أن عدداً ضخماً من الأرقاء قد حرر بطريق العتق، وأن هذا‎ ‎العدد الضخم لا مثيل ‏له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام، ولا بعده بقرون عدة‎ ‎حتى مطلع العصر الحديث. كما ‏أن عوامل عتقهم كانت إنسانية بحتة، تنبع من ضمائر الناس‎ ‎ابتغاء مرضاة الله، ولاشيء غير ‏مرضاة الله‎.

أما المكاتبة، فهي منح الحرية‎ ‎للرقيق متى طلبها بنفسه، مقابل مبلغ من المال يتفق عليه السيد ‏والرقيق. والعتق هنا‎ ‎إجباري لا يملك السيد رفضه ولا تأجيله بعد أداء المبلغ المتفق عليه. وإلا ‏تدخلت‎ ‎الدولة (القاضي أو الحاكم) لتنفيذ العتق بالقوة، ومنح الحرية‎ ‎لطالبها‎.

وبتقرير المكاتبة، فتح في الواقع باب التحرير في الإسلام، لمن أحس‎ ‎في داخل نفسه برغبة ‏التحرر، ولم ينتظر أن يتطوع سيده بتحريره في فرصة قد تسنح أو لا‎ ‎تسنح على مر الأيام‎.

ومنذ اللحظة الأولى التي يطلب فيها المكاتبة - والسيد‏‎ ‎لا يملك رفض المكاتبة متى طلبها الرقيق، ‏ولم يكن في تحريره خطر على أمن الدولة‎ ‎الإسلامية - يصبح عمله عند سيده بأجر، أو يتاح له ‏‏- إذا رغب - أن يعمل في الخارج‏‎ ‎بأجر، حتى يجمع المبلغ المتفق عليه‎.

ومثل ذلك قد حدث في أوربا في القرن‎ ‎الرابع عشر - أي بعد تقرير الإسلام له بسبعة قرون - ‏مع فارق كبير لم يوجد في غير‎ ‎الإسلام، وهو كفالة الدولة للأرقاء المكاتبين - وذلك إلى جانب ‏مجهود الإسلام الضخم‎ ‎في عتق الأرقاء تطوعاً بلا مقابل، تقرباً إلى الله ووفاء بعبادته‎.

تقول‎ ‎الآية التي تبين مصارف الزكاة: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين‎ ‎عليها... وفي ‏الرقاب … " [24] فتقرر أن الزكاة تصرف من بيت المال - وهو الخزانة‏‎ ‎العامة في العرف ‏الحديث - لمعاونة المكاتبين من الأرقاء لأداء ثمن التحرير، إذا‎ ‎عجزوا بكسبهم الخاص عن أدائه‎. ‎‎

وبهذا وذاك يكون الإسلام قد خطا خطوات فعليه‎ ‎واسعة في سبيل تحرير الرقيق، وسبق بها ‏التطور التاريخي كله بسبعة قرون على الأقل،‎ ‎وزاد على هذا التطور عناصر – كرعاية الدولة – ‏لم يفىء إليها العالم إلا في مطلع‎ ‎تاريخه الحديث. وعناصر أخرى لم يفىء إليها أبداً، سواء في ‏حسن معاملة الرقيق، أو في‎ ‎عتقه تطوعاً، بغير ضغط من التطورات الاقتصادية أو السياسية التي ‏اضطرت الغرب‎ ‎اضطراراً لتحرير الرقيق‎ ‎كما سيجيء‎.

وبهذا وذاك تسقط حذلقة الشيوعيون‎ ‎ودعاواهم " العلمية " الزائفة، التي تزعم أن الإسلام حلقة من ‏حلقات التطور‎ ‎الاقتصادي جاءت في موعدها الطبيعي حسب سنة المادية الجدلية – فها هي ذي ‏قد سبقت‎ ‎موعدها بسبعة قرون – والتي تزعم أن كل نظام - بما في ذلك الإسلام - إن هو إلا‏‎ ‎انعكاس للتطور الاقتصادي القائم وقت ظهوره، وأن كل عقائده وأفكاره تلائم هذا التطور‎ ‎وتستجيب له، ولكنها لا تسبقه، ولا تستطيع أن تسبقه، كما قرر العقل الذي لا يخطىء‎ ‎ولا يأتيه ‏الباطل من فوقه ولا من تحته، عقل كارل مارس تقدست ذكراه! فها هو ذا‎ ‎الإسلام لم يعمل بوحي ‏النظم الاقتصادية القائمة حينئذ في جزيرة العرب وفي العالم‎ ‎كله، لا في شأن الرقيق، ولا في ‏توزيع الثروة، ولا في علاقة الحاكم بالمحكوم، أو‎ ‎المالك بالأجير [25]، وإنما كان ينشئ نظمه ‏الاجتماعية والاقتصادية تطوعاً وإنشاء‎ ‎على نحو غير مسبوق، ولا يزال في كثير من أبوابه ‏متفرداً في التاريخ‎.

وهنا‎ ‎يخطر السؤال الحائر على الأفكار والضمائر: إذا كان الإسلام قد خطا هذه الخطوات كلها‎ ‎نحو تحرير الرقيق، وسبق بها العالم كله متطوعاً غير مضطر ولا مضغوط عليه، فلماذا لم‎ ‎يخط ‏الخطوة الحاسمة الباقية، فيعلن في صراحة كاملة إلغاء الرق من حيث‎ ‎المبدأ؟‎

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن ندرك حقائق اجتماعية ونفسية‎ ‎وسياسية أحاطت بموضوع ‏الرق، وجعلت الإسلام يضع المبادئ الكفيلة بتحرير الرقيق،‎ ‎ويدعها تعمل عملها على المدى ‏الطويل‎.

يجب أن نذكر أولاً أن الحرية لا تمنح‎ ‎وإنما تؤخذ. وتحرير الرقيق بإصدار مرسوم كما يتخيل ‏البعض لم يكن ليحرر الرقيق‎! ‎والتجربة الأمريكية في تحرير الرقيق بجرة قلم على يد أبراهام ‏لنكولن خير شاهد لما‎ ‎نقول، فالعبيد الذين حررهم لنكولن - من الخارج - بالتشريع، لم يطيقوا ‏الحرية،‎ ‎وعادوا إلى سادتهم يرجونهم أن يقبلوهم عبيداً لديهم كما كانوا، لأنهم - من الداخل‏‎ - ‎لم ‏يكونوا قد تحرروا بعد‎.

والمسألة على غرابتها ليست غريبة حين ينظر إليها‎ ‎على ضوء الحقائق النفسية. فالحياة عادة. ‏والملابسات التي يعيش فيها الإنسان هي التي‎ ‎تكيف مشاعره وتصوغ أحاسيسه وأجهزته النفسية ‏‏[26] والكيان النفسي للعبد يختلف عن‎ ‎الكيان النفسي للحر، لا لأنه جنس آخر كما ظن القدماء، ‏ولكن لأن حياته في ظل‏‎ ‎العبودية الدائمة جعلت أجهزته النفسية تتكيف بهذه الملابسات، فتنمو ‏أجهزة الطاعة‎ ‎إلى أقصى حد، وتضمر أجهزة المسؤولية واحتمال التبعات إلى أقصى حد‎..

فالعبد‎ ‎يحسن القيام بكثير من الأمور حين يأمره بها سيده، فلا يكون عليه إلا الطاعة‎ ‎والتنفيذ. ‏ولكنه لا يحسن شيئاً تقع مسؤوليته على نفسه، ولو كان أبسط الأشياء، لا‎ ‎لأن جسمه يعجز عن ‏القيام بها، ولا لأن فكره – في جميع الأحوال - يعجز عن فهمها ؛‏‎ ‎ولكن لأن نفسه لا تطيق ‏احتمال تبعاتها، فيتخيل فيها أخطاراً موهومة، ومشكلات لا حل‎ ‎لها، فيفر منها إبقاء على نفسه من ‏الأخطار‎!

ولعل الذين يمعنون النظر في‎ ‎الحياة المصرية - والشرقية - في العهود الأخيرة يدركون أثر هذه ‏العبودية الخفية‎ ‎التي وضعها الاستعمار الخبيث في نفوس الشرقيين ليستعبدهم للغرب. يدركونها ‏في‎ ‎المشروعات المعطلة التي لا يعطلها - في كثير من الأحيان - إلا الجبن عن مواجهة‎ ‎نتائجها! ‏والمشروعات المدروسة التي لا تنفذها الحكومات حتى تستقدم خبيراً انجليزياً‎ ‎أو أمريكياً [27].. ‏الخ. ليحتمل عنها مسؤولية المشروع ويصدر الإذن بالتنفيذ! والشلل‎ ‎المروع الذي يخيم على ‏الموظفين في الدواوين ويقيد إنتاجهم بالروتين المتحجر، لأن‎ ‎أحداً من الموظفين لا يستطيع أن ‏يصنع إلا ما يأمره به " السيد " الموظف الكبير،‎ ‎وهذا بدوره لا يملك إلا إطاعة " السيد " الوزير، ‏لا لأن هؤلاء جميعاً يعجزون عن‎ ‎العمل، ولكن لأن جهاز التبعات عندهم معطل وجهاز الطاعة ‏عندهم متضخم، فهم أشبه شيء‎ ‎بالعبيد، وإن كانوا رسمياً من الأحرار‎!

هذا التكيف النفسي للعبد هو الذي‎ ‎يستعبده. وهو ناشىء في أصله من الملابسات الخارجية بطبيعة ‏الحال، ولكنه يستقل عنها،‎ ‎ويصبح شيئاً قائماً بذاته كفرع الشجرة الذي يتدلى إلى الأرض، ثم يمد ‏جذوراً خاصة به‎ ‎ويستقل عن الأصل. وهذا التكيف النفسي لا يذهب به إعلان تصدره الدولة ‏بإلغاء الرق‎. ‎بل ينبغي أن يغير من الداخل، بوضع ملابسات جديدة تكيف المشاعر على نحو ‏آخر، وتنمي‎ ‎الأجهزة الضامرة في نفس العبد، وتصنع كياناً بشرياً سوياً من كيانه المشوه ‏الممسوخ‎.

وذلك ما صنعه الإسلام‎.

فقد بدأ أولا بالمعاملة الحسنة للرقيق. ولا‎ ‎شيء كحسن المعاملة يعيد توازن النفس المنحرفة، ويرد ‏إليها اعتبارها، فتشعر بكيانها‎ ‎الإنساني، وكرامتها الذاتية، وحين ذلك تحس طعم الحرية فتتذوقه، ‏ولا تنفر منه كما‎ ‎نفر عبيد أمريكا المحررون‎.

وقد وصل الإسلام في حسن المعاملة ورد الاعتبار‎ ‎الإنساني للرقيق إلى درجة عجيبة ضربنا ‏أمثلة منها من قبل في آيات القرآن وأحاديث‎ ‎الرسول، ونسرد هنا أمثلة أخرى في التطبيق ‏الواقعي‎.

كان الرسول صلى الله عليه‎ ‎وسلم يؤاخي بين بعض الموالي وبعض الأحرار من سادة العرب. ‏فآخى بين بلال بن رباح‎ ‎وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه حمزة، وبين خارجة ‏بن زيد وأبي بكر،‎ ‎وكانت هذه المؤاخاة صلة حقيقية تعدل رابطة الدم وتصل إلى حد الاشتراك ‏في‎ ‎الميراث‎!

ولم يكتف بهذا الحد‎ …

فقد زوج بنت عمته زينب بنت جحش من‎ ‎مولاه زيد. والزواج مسألة حساسة جداً وخاصة من ‏جانب المرأة، فهي تقبل أن تتزوج من‎ ‎يفضلها مقاماً ولكنها تأبى أن يكون زوجها دونها في ‏الحسب والنسب والثروة، وتحس أن‎ ‎هذا يحط من شأنها ويغض من كبريائها. ولكن الرسول صلى ‏الله عليه وسلم كان يهدف إلى‎ ‎معنى أسمى من كل ذلك وهو رفع الرقيق من الوهدة التي دفعته ‏إليها البشرية الظالمة‎ ‎إلى مستوى أعظم سادة العرب من قريش‎.

ولم يكتف كذلك بهذا الحد‏‎.

فقد‎ ‎أرسل مولاه زيداً على رأس جيش فيه الأنصار والمهاجرون من سادات العرب، فلما قتل ولى‎ ‎ابنه أسامة بن زيد قيادة الجيش، وفيه أبو بكر وعمر وزيرا الرسول وخليفتاه من بعده،‎ ‎فلم يعط ‏المولى بذلك مجرد المساواة الإنسانية، بل أعطاه حق القيادة والرئاسة على‏‎ " ‎الأحرار ". ووصل ‏في ذلك إلى أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد حبشي‎ ‎كأن رأسه زبيبة، ما أقام ‏فيكم كتاب الله تبارك وتعالى [28]". فأعطى الموالي بذلك‎ ‎الحق في أرفع مناصب الدولة، وهو ‏ولاية أمر المسلمين. وقد قال عمر وهو يستخلف: " لو‎ ‎كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته " ‏فيسير على نفس المبدأ الذي سنه الرسول صلى‎ ‎الله عليه وسلم. ويضرب عمر مثلاً آخر من ‏الأمثلة الرائعة على احترام الموالي ؛ إذ‎ ‎يعارضه بلال بن رباح في مسألة الفيء فيشتد في ‏معارضته، فلا يجد سبيلاً في رده إلا‎ ‎أن يقول: " اللهم اكفني بلالاً وأصحابه "! ذلك وهو الخليفة ‏الذي كان يملك - لو أراد‏‎ - ‎أن يأمر فيطاع‎!

هذه النماذج التي وضعها الإسلام كان المقصود بها تحرير‎ ‎الرقيق من الداخل - كما قلنا في مبدأ ‏هذا الفصل - لكي يحس بكيانه فيطلب الحرية،‏‎ ‎وهذا هو الضمان الحقيقي للتحرير‎.

وصحيح أنه شجع على العتق وحث عليه بكل‎ ‎الوسائل، ولكن هذا نفسه كان جزءاً من التربية ‏النفسية للرقيق، لكي يشعروا أن في‎ ‎إمكانهم أن يحصلوا على الحرية ويتمتعوا بكل ما يتمتع به ‏السادة من حقوق، فتزداد‎ ‎رغبتهم في الحرية ويتقبلوا احتمال التبعات في سبيلها، وهنا يسارع في ‏منحها لهم،‎ ‎لأنهم حينئذ مستحقون لها، قادرون على صيانتها‎.

وفرق كبير بين النظام الذي‎ ‎يشجع الناس على طلب الحرية ويهيء لها الوسائل، ثم يعطيها لهم ‏في اللحظة التي‎ ‎يطلبونها بأنفسهم، وبين النظم التي تدع الأمور تتعقد وتتحرج، حتى تقوم الثورات‎ ‎الاقتصادية والاجتماعية وتزهق الأرواح بالمئات والألوف، ثم لا تعطي الحرية لطلابها‎ ‎إلا مجبرة ‏كارهة‎.

وقد كان من فضائل الإسلام الكبرى في مسألة الرقيق، أنه قد‎ ‎حرص على التحرير الحقيقي له من ‏الداخل والخارج، فلم يكتف بالنية الطيبة كما فعل‎ ‎لنكولن بإصدار تشريع لا رصيد له في داخل ‏النفوس ؛ مما يثبت عمق إدراك الإسلام‎ ‎للطبيعة البشرية، وفطنته إلى خير الوسائل لمعالجتها. ‏وهذا إلى جانب تطوعه بإعطاء‎ ‎الحقوق لأصحابها، مع تربيتهم على التمسك بها واحتمال تبعاتها ‏‏- على أساس الحب‏‎ ‎والمودة بين جميع طوائف المجتمع - قبل أن يتصارعوا من أجل هذه ‏الحقوق، كما حدث في‎ ‎أوربا، ذلك الصراع البغيض الذي يجفف المشاعر ويورث الأحقاد. فيفسد ‏كل ما يمكن أن‎ ‎تصيبه البشرية من الخير في أثناء الطريق‎.

والآن نتحدث عن العامل الأكبر الذي‎ ‎جعل الإسلام يضع الأساس لتحرير الرقيق ثم يدعه يعمل ‏عمله من خلال‎ ‎الأجيال‎.

لقد جفف الإسلام منابع الرق القديمة كلها، فيما عدا منبعاً واحداً‏‎ ‎لم يكن يمكن أن يجففه، وهو رق ‏الحرب. ولنأخذ في شيء من التفصيل‎.

كان العرف‎ ‎السائد يومئذ هو استرقاق أسرى الحرب أو قتلهم [29] وكان هذا العرف قديماً جداً،‎ ‎موغلاً في ظلمات التاريخ، يكاد يرجع إلى الإنسان الأول، ولكنه ظل ملازماً للإنسانية‎ ‎في شتى ‏أطوارها‎.

وجاء الإسلام والناس على هذا الحال. ووقعت بينه وبين أعداءه‎ ‎الحروب، فكان الأسرى ‏المسلمون يسترقون عند أعداء الإسلام، فتسلب حرياتهم، ويعامل‎ ‎الرجال منهم بالعسف والظلم ‏الذي كان يجري يومئذ على الرقيق، وتنتهك أعراض النساء‎ ‎لكل طالب، يشترك في المرأة ‏الواحدة الرجل وأولاده وأصدقاؤه من يبغي الاستمتاع منهم،‎ ‎بلا ضابط ولا نظام، ولا احترام ‏لإنسانية أولئك النساء أبكاراً كن أم غير أبكار. أما‎ ‎الأطفال – إن وقعوا أسرى – فكانوا ينشأون ‏في ذل العبودية البغيض‎.

عندئذ لم‎ ‎يكن جديراً بالمسلمين أن يطلقوا سراح من يقع في أيديهم من أسرى الأعداء. فليس من‎ ‎حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك‎ ‎يسامون ‏الخسف والعذاب عند هؤلاء الأعداء. والمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون‎ ‎تستطيع استخدامه، أو ‏هي القانون الوحيد. ومع ذلك فينبغي أن نلاحظ فروقاً عميقة بين‎ ‎الإسلام وغيره من النظم في ‏شأن الحرب وأسرى الحرب‎.

كانت الحروب – وما تزال‏‎ – ‎في غير العالم الإسلامي لا يقصد بها إلا الغزو والفتك والاستعباد. ‏كانت تقوم على‎ ‎رغبة أمة في قهر غيرها من الأمم، وتوسيع رقعتها على حسابها، أو لاستغلال ‏مواردها‎ ‎وحرمان أهلها منها ؛ أو لشهوة شخصية تقوم في نفس ملك أو قائد حربي، ليرضي ‏غروره‎ ‎الشخصي وينتفش كبراً وخيلاء، أو لشهوة الانتقام.. أو ما إلى ذلك من الأهداف الأرضية‎ ‎الهابطة. وكان الأسرى الذين يسترقون، لا يسترقون لخلاف في عقيدة، ولا لأنهم في‎ ‎مستواهم ‏الخلقي أو النفسي أو الفكري أقل من آسريهم، ولكن فقط لأنهم غلبوا في‎ ‎الحرب‎.

وكذلك لم تكن لهذه الحرب تقاليد تمنع من هتك الأعراض أو تخريب المدن‎ ‎المسالمة، أو قتل ‏النساء والأطفال والشيوخ، وذلك منطقي مع قيامها لغير عقيدة ولا‎ ‎مبدأ ولا هدف رفيع‎.

فلما جاء الإسلام أبطل ذلك كله، وحرم الحروب كلها. إلا‎ ‎أن تكون جهاداً في سبيل الله.. جهاداً ‏لدفع اعتداء عن المسلمين، أو لتحطيم القوى‎ ‎الباغية التي تفتن الناس عن دينهم بالقهر والعنف. أو ‏لإزالة القوى الضالة التي تقف‎ ‎في سبيل الدعوة وإبلاغها للناس ليروا الحق ويسمعوه‎.

‎(‎وقاتلوا في سبيل الله‎ ‎الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) [30] (وقاتلوهم حتى ‏لا تكون‎ ‎فتنة ويكون الدين كله لله) [31‏‎].

فهي دعوة سلمية لا تكره أحداً: (لا إكراه‎ ‎في الدين قد تبين الرشد من الغي) [32] وبقاء اليهود ‏والمسيحيين في العالم الإسلامي‎ ‎على دينهم حتى اللحظة برهان قاطع لا يقبل الجدل ولا المماحكة، ‏يثبت أن الإسلام لم‎ ‎يكره غيره على اعتناقه بقوة السيف [33‏‎].

فاذا قبل الناس الإسلام، واهتدوا‎ ‎إلى دين الحق، فلا حرب ولا خصومة ولا خضوع من أمة لأمة، ‏ولا تمييز بين مسلم ومسلم‎ ‎على وجه الأرض، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى‎.

فمن أبى الإسلام وأراد‎ ‎أن يحتفظ بعقيدته في ظل النظام الإسلامي – مع إيمان الإسلام بأنه خير ‏من هذه‎ ‎العقيدة وأقوم سبيلاً – فله ذلك دون إكراه ولا ضغط، على أن يدفع الجزية مقابل حماية‏‎ ‎الإسلام له، بحيث تسقط الجزية أو ترد إن عجز المسلمون عن حمايته [34] فإن أبوا‎ ‎الإسلام ‏والجزية فهم إذن معاندون متبجحون، لا يريدون للدعوة السلمية أن تأخذ‎ ‎طريقها، وإنما يريدون ‏أن يقفوا بالقوة المادية في طريق النور الجديد يحجبونه عن‎ ‎عيون قوم ربما اهتدوا لو خلي بينهم ‏وبين النور‎.

عند ذلك فقط يقوم القتال،‎ ‎ولكنه لا يقوم بغير إنذار أو إعلان، لإعطاء فرصة أخيرة لحقن الدماء ‏ونشر السلم في‎ ‎ربوع الأرض: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) [35‏‎].

تلك هي الحرب‎ ‎الإسلامية، لا تقوم على شهوة الفتح ولا رغبة الاستغلال، ولا دخل فيها لغرور ‏قائد‎ ‎حربي أو ملك مستبد، فهي حرب في سبيل الله وفي سبيل هداية البشرية، حين تخفق الوسائل‎ ‎السلمية كلها في هداية الناس‎.

ولها مع ذلك تقاليد ؛ يقول الرسول صلى الله‎ ‎عليه وسلم في وصيته: "اغزوا باسم الله في سبيل ‏الله. قاتلوا من كفر بالله. اغزوا‎ ‎ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا" [36‏‎].

فلا قتل لغير المحارب الذي‎ ‎يقف بالسلاح يقاتل المسلمين، ولا تخريب ولا تدمير ولا هتك ‏للأعراض، ولا إطلاق لشهوة‎ ‎الشر والإفساد: (إن الله لا يحب المفسدين‎).

وقد راعى المسلمون تقاليدهم‎ ‎النبيلة هذه في كل حروبهم، حتى في الحروب الصليبية الغادرة، ‏حين انتصروا على عدوهم‎ ‎الذي كان في جولة سابقة قد انتهك الحرمات واعتدى على المسجد ‏الأقصى فهاجم المحتمين‎ ‎فيه بحمى الله – رب الجميع – وأسال دماءهم فيه أنهاراً، فلم ينتقموا ‏لأنفسهم حين‎ ‎جاءهم النصر، وهم يملكون الإذن من الدين ذاته بالمعاملة بالمثل: (فمن اعتدى ‏عليكم‎ ‎فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) [37]. ولكنهم ضربوا المثل الأعلى الذي يعجز عنه‎ ‎غير المسلمين في كل الأرض حتى العصر الحديث‎.

ذلك فارق أساسي في أهداف الحرب‎ ‎وتقاليدها بين المسلمين وغير المسلمين. وقد كان الإسلام ‏يملك لو أراد – والحق يسنده‏‎ ‎في ذلك – أن يعتبر من يقع في يديه من الأسرى – ممن يعاندون ‏الهدى ويصرون على‎ ‎وثنيتهم الهابطة وشركهم المخرف – قوماً ناقصي الآدمية، ويسترقهم بهذا ‏المعنى وحده‎. ‎فما يصر بشر على هذه الخرافة – بعد إذ يرى النور – إلا أن يكون في نفسه ‏هبوط أو في‎ ‎عقله انحراف، فهو ناقص في كيانه البشري، غير جدير بكرامة الآدميين، وحرية ‏الأحرار‎ ‎من بني الإنسان‎.

ومع ذلك فإن الإسلام لم يسترق الأسرى لمجرد اعتبار أنهم‎ ‎ناقصون في آدميتهم، وإنما لأنهم – ‏وهذه حالهم – قد جاءوا يعتدون على حمى الإسلام،‏‎ ‎أو وقفوا بالقوة المسلحة يحولون بين الهدى ‏الرباني وبين قلوب الناس‎.

وحتى مع‎ ‎ذلك فلم يكن تقليد الإسلام الدائم هو استرقاق الأسرى. فقد أطلق الرسول صلى الله‎ ‎عليه ‏وسلم بعض أسرى بدر من المشركين منًّا بغير فداء، وأطلق بعضهم لقاء فدية، وأخذ‎ ‎من نصارى ‏نجران جزية ورد إليهم أسراهم، ليضرب بذلك المثل لما يريد أن تهتدي إليه‎ ‎البشرية في مستقبلها‎.

ومما هو جدير بالإشارة هنا أن الآية الوحيدة التي‎ ‎تعرضت لأسرى الحرب: (فإما منّا بعد وإما ‏فداء حتى تضع الحرب أوزارها) [38] لم تذكر‎ ‎الاسترقاق للأسرى، وإنما ذكرت الفداء وإطلاق ‏السراح دون مقابل، حتى لا يكون‎ ‎الاسترقاق تشريعاً دائماً للبشرية ولا ضربة لازب، إنما هو أمر ‏يلجأ إليه الجيش‎ ‎الإسلامي المحارب إذا اقتضته الظروف والملابسات‎.

يضاف إلى ذلك أن الأسرى‎ ‎الذين كانوا يقعون في يد الإسلام كانوا يعاملون تلك المعاملة الكريمة ‏التي وصفناها‎ ‎من قبل، ولا يلقون الهوان والتعذيب، وكان يفتح أمامهم باب التحرر حين تسعى ‏نفوسهم‎ ‎إليه وتحتمل تبعاته، وإن كان معظمهم في الواقع لم يكن حراً قبل أسره، إنما كان من‎ ‎الرقيق الذي استرقه الفرس والرومان ودفعوه إلى قتال المسلمين‎.

فكأن الأمر في‎ ‎الحقيقة لم يكن استرقاقاً من أجل الاسترقاق. ولا كان الرق أصلاً دائماً يهدف‎ ‎الإسلام إلى المحافظة عليه، فاتجاه الإسلام إلى تحرير الرقيق هو الاتجاه البارز‎ ‎الذي تشير كل ‏الدلائل إليه‎.

وإنما هو وضع موقوت يؤدي في النهاية إلى‎ ‎التحرير‎.

تقوم الحرب بين المسلمين وأعداء الإسلام فيقع بعض الأسرى من الكفار‎ ‎في يد المسلمين، ‏فيصبحون – في بعض الحالات، لا في كل الحالات ولا بصورة حتمية‏‎ – ‎رقيق حرب، فيعيشون ‏فترة من الزمن في جو المجتمع الإسلامي، يبصرون عن كثب صورة العدل‎ ‎الرباني مطبقاً في ‏واقع الأرض، وتشملهم روح الإسلام الرحيمة بحسن معاملتها‎ ‎واعتباراتها الإنسانية، فتتشرب ‏أرواحهم بشاشة الإسلام، وتتفتح بصائرهم للنور‎.. ‎وعندئذ يحررهم الإسلام بالعتق في بعض ‏الأحيان، أو بالمكاتبة إن تاقت نفوسهم إلى‎ ‎الحرية وسعوا إليها‎.

وبذلك تصبح الفترة التي يقضونها في الرق في الحقيقة‎ ‎فترة علاج نفسي وروحي، قوامه إحسان ‏المعاملة لهم، وإشعارهم بآدميتهم المهدرة،‎ ‎وتوجيه أرواحهم إلى النور الرباني بغير إكراه.. ثم في ‏النهاية يكون‎ ‎التحرير‎..

وذلك كله في حالة الاسترقاق. وليست هي السبيل الوحيد الذي يسلكه‎ ‎الإسلام، كما يتضح من آية ‏التشريع، ومن السلوك العملي للرسول صلى الله عليه وسلم في‎ ‎مختلف الغزوات‎.

أما النساء فقد كرمهن - حتى في رقهن - عما كن يلقين في غير‏‎ ‎بلاد الإسلام. فلم تعد أعراضهن ‏نهباً مباحاً لكل طالب على طريقة البغاء (وكان هذا‎ ‎هو مصير أسيرات الحروب في أغلب ‏الأحيان) وإنما جعلهن ملكاً لصاحبهن وحده، لا يدخل‎ ‎عليهن أحد غيره، وجعل من حقهن نيل ‏الحرية بالمكاتبة، كما كانت تحرر من ولدت لسيدها‎ ‎ولداً ويحرر معها ولدها، وكن يلقين من حسن ‏المعاملة ما أوصى به الإسلام‎.‎
‎* * *‎

تلك قصة الرق في‎ ‎الإسلام: صفحة مشرفة في تاريخ البشرية. فالإسلام لم يجعل الرق أصلاً من ‏أصوله،‎ ‎بدليل أنه سعى إلى تحريره بشتى الوسائل، وجفف منابعه كلها لكي لا يتجدد، فيما عدا‎ ‎المنبع الواحد الذي ذكرناه وهو رق الحرب المعلنة للجهاد في سبيل الله. وقد رأينا أن‎ ‎الرق فيها ‏ليس ضربة لازب، وأنه – إن حدث – فلفترة موقوتة تؤدي في النهاية إلى‏‎ ‎التحرير‎..

أما ما حدث في بعض العهود الإسلامية من الرق في غير أسرى الحروب‎ ‎الدينية، ومن نخاسة ‏واختطاف وشراء لمسلمين لا يجوز استرقاقهم أصلاً، فإن نسبته إلى‎ ‎الإسلام ليست أصدق ولا ‏أعدل من نسبة حكام المسلمين اليوم إلى الإسلام بما يرتكبونه‎ ‎من موبقات وآثام‎!

وينبغي أن نجعل بالنا إلى عدة أمور في هذا الموضوع‎.

الأول: هو تعدد منابع الرق عند الدول الأخرى بغير ضرورة ملجئة سوى شهوة‎ ‎الاستعباد، من ‏استرقاق أمة لأمة، وجنس لجنس، واسترقاق للفقر. واسترقاق بالوراثة من‎ ‎الميلاد في طبقة ‏معينة، واسترقاق بسبب العمل في الأرض إلخ، وإلغاء هذه المنابع كلها‎ ‎في الإسلام، فيما عدا ‏المنبع الوحيد الذي شرحنا ظروفه من قبل‎.

والثاني: أن‎ ‎أوربا مع تعدد موارد الرق فيها بغير ضرورة، لم تلغ الرق حين ألغته متطوعة، ‏وكتابهم‎ ‎يعترفون بأن الرق ألغي حين ضعف إنتاج الرقيق – لسوء أحوالهم المعيشية وفقدان ‏الرغبة‎ ‎أو القدرة على العمل – بحيث أصبحت تكاليف العبد من إعاشة وحراسة أكثر من إنتاجه‏‎!! ‎فهي إذن حسبة اقتصادية لا غير، يحسب فيها المكسب والخسارة، ولا ظل فيها لأي معنى من‎ ‎المعاني الإنسانية التي تشعر بكرامة الجنس البشري، فتمنح الرقيق حريته من أجلها‎! ‎هذا بالإضافة ‏إلى الثورات المتتابعة التي قام بها الرقيق فاستحال معها دوام‎ ‎استرقاقه‎.

ومع ذلك فإن أوربا حينئذ لم تمنحه الحرية. ولكنها حولته من رقيق‎ ‎للسيد إلى رقيق للأرض، يباع ‏معها ويشترى، ويخدم فيها، ولا يجوز له أن يغادرها، وإلا‏‎ ‎اعتبر آبقاً وأعيد إليها بقوة القانون ‏مكبلاً بالسلاسل مكوياً بالنار. وهذا اللون‎ ‎من الرق هو الذي بقي حتى حرمته الثورة الفرنسية في ‏القرن الثامن عشر، أي بعد أن قرر‎ ‎الإسلام مبدأ التحرير بما يزيد على ألف ومائة عام‎.

والأمر الثالث: أنه لا‎ ‎يجوز أن تخدعنا الأسماء. فقد ألغت الثورة الفرنسية الرق في أوربا، وألغى ‏لنكولن‎ ‎الرق في أمريكا، ثم اتفق العالم على إبطال الرق.. كل ذلك من الظاهر. وإلا فأين هو‎ ‎الرق الذي ألغي؟ وما اسم ما يحدث اليوم في كل أنحاء العالم؟ وما اسم الذي كانت‎ ‎تصنعه فرنسا ‏في المغرب الإسلامي؟ وما اسم الذي تصنعه أمريكا في الزنوج، وانجلترا في‎ ‎الملونين في جنوب ‏افريقيا؟‎

أليس الرق في حقيقته هو تبعية قوم لقوم آخرين،‎ ‎وحرمان طائفة من البشر من الحقوق المباحة ‏للآخرين؟ أم هو شيء غير ذلك؟ وماذا يعني‎ ‎أن يكون هذا تحت عنوان الرق، أو تحت عنوان ‏الحرية والإخاء والمساواة؟ ماذا تجدي‎ ‎العناوين البراقة إذا كانت الحقائق التي وراءها هي أخبث ‏ما عرفته البشرية من‎ ‎الحقائق في تاريخها الطويل؟‎

لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس فقال‎: ‎هذا رق، وسببه الوحيد هو كذا، والطريق إلى ‏التحرر منه مفتوح‎.

أما الحضارة‎ ‎الزائفة التي نعيش اليوم في أحضانها، فلا تجد في نفسها هذه الصراحة، فهي ‏تصرف‎ ‎براعتها في تزييف الحقائق وطلاء اللافتات البراقة. فقتل مئات الألوف في تونس‎ ‎والجزائر والمغرب لغير شيء سوى أنهم يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية: حريتهم في‎ ‎أن ‏يعيشوا في بلادهم بلا دخيل، وأن يتكلموا لغتهم، ويعتقدوا عقيدتهم، ولا يخدموا‎ ‎إلا أنفسهم. ‏وحريتهم في التعامل المباشر مع العالم في السياسة والاقتصاد... قتل‎ ‎هؤلاء الأبرياء وحبسهم في ‏السجون القذرة بلا طعام ولا ماء، وانتهاك أعراضهم والسطو‎ ‎على نسائهم، وقتلهن بلا مبرر ‏وشق بطونهن للتراهن على نوع الجنين.. هذا اسمه في‎ ‎القرن العشرين حضارة ومدنية ونشر ‏لمبادئ الحرية والإخاء والمساواة. أما المعاملة‎ ‎المثالية الكريمة التي كان يمنحها الإسلام للرقيق ‏قبل ثلاثة عشر قرناً، تطوعاً منه‎ ‎وإكراماً للجنس البشري في جميع حالاته، مع إعلانه العملي بأن ‏الرق وضع مؤقت وليس‏‎ ‎حالة دائمة، فهذا اسمه تأخر وانحطاط وهمجية‎.

وحين يضع الأمريكان على فنادقهم‎ ‎ونواديهم لافتات تقول: " للبيض فقط " أو تقول في وقاحة ‏كريهة: " ممنوع دخول السود‎ ‎والكلاب "، وحين يفتك جماعة من البيض " المتحضرين " بواحد ‏من الملونين، فيطرحونه‎ ‎أرضاً ويضربونه بأحذيتهم حتى يسلم الروح، ورجل الشرطة واقف لا ‏يتحرك ولا يتدخل، ولا‎ ‎يهم لنجدة أخيه في الوطن وفي الدين واللغة فضلاً عن الأخوة في ‏البشرية، كل ذلك لأنه‎ – ‎وهو ملون – تجرأ فمشى إلى جانب فتاة أمريكية بيضاء لا عرض لها – ‏وبإذنها لا كرها‎ ‎عنها – يكون هذا هو أقصى ما وصل إليه القرن العشرون من التحضر‏‎ ‎والارتفاع‎.

أما حين يتهدد العبد المجوسي عمر بالقتل، ويفهم عنه عمر ذلك، ثم‎ ‎لا يحبسه ولا ينفيه من ‏الأرض، ولا نقول يقتله، وهو مخلوق ناقص الآدمية حقا لأنه‎ ‎يعبد النار ويصر على عبادتها ‏تعصباً منه للباطل بعد أن رأى الحق بعينيه، فما أشد‎ ‎همجية عمر، وما أشد ازدراءه لكرامة ‏الجنس البشري لأنه قال: " تهددني العبد "! ثم‎ ‎تركه حراً حتى ارتكب جريمته فقتل خليفة ‏المسلمين، لأنه لم يكن يملك عليه سلطاناً‎ ‎قبل أن يقترف الجريمة‎.

وقصة الملونين في أفريقيا، وحرمانهم من حقوقهم‎ ‎البشرية وقتلهم أو " اصطيادهم " حسب تعبير ‏الجرائد الإنجليزية الوقحة، لأنهم تجرأوا‎ ‎فأحسوا بكرامتهم وطالبوا بحريتهم، هذا هو العدل ‏البريطاني في قمته، والحضارة‎ ‎الإنسانية في أوجها، والمبادئ السامية التي تجيز لأوربا الوصاية ‏على العالم. أما‎ ‎الإسلام فهو همجي جداً لأنه لم يتعلم " اصطياد " البشر، والتلهي بقتلهم لأنهم سود‎ ‎البشرة. بل وصل توغله في التأخر والانحطاط أن يقول: " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل‎ ‎عليكم ‏عبد حبشي كأن رأسه زبيبة‎.. "‎

أما المرأة فلها حساب آخر‎.

كان الإسلام قد أباح للسيد أن يكون عنده عدد من‎ ‎الجواري من سبى الحرب [39] يستمتع بهن ‏وحده، ويتزوج منهن أحياناً إذا شاء. وأوربا‎ ‎تستنكر هذا اليوم وتتعفف عن هذه الحيوانية البشعة ‏التي تعتبر الجواري متاعاً‎ ‎مباحاً، وأجساداً لا حرمة لها ولا كرامة، كل مهمتها في الحياة إشباع ‏لذة بهيمية‎ ‎بغيضة، لرجل لا يرتفع عن مستوى الحيوان‎.

وجريمة الإسلام الحقيقية في هذا‎ ‎الأمر أنه لا يبيح البغاء! فقد كانت أسيرات الحرب في البلاد ‏الأخرى يهوين إلى حمأة‎ ‎الرذيلة بحكم أنه لا عائل لهن، ولأن سادتهن لا يشعرن نحوهن بحمية ‏العرض، فيشغلونهن‎ ‎في هذه المهمة البغيضة، ويكسبون من هذه التجارة القذرة: تجارة الأعراض. ‏ولكن‎ ‎الإسلام – المتأخر – لم يقبل البغاء، وحرص على حفظ المجتمع نظيفاً من الجريمة، فقصر‏‎ ‎هؤلاء الجواري على سيدهن، عليه إطعامهن وكسوتهن وحفظهن من الجريمة، وإرضاء حاجتهن‎ ‎الجنسية – عرضاً – وهو يقضي حاجته‏‎.

أما ضمير أوربا فلا يطيق هذه‎ ‎الحيوانية... ولذلك أباحت البغاء ومنحته رعاية القانون وحمايته! ‏وراحت تنشره عامدة‎ ‎في كل بلد وطئته أقدامها مستعمرة. فما الذي تغير من الرق حين تغير ‏عنوانه؟ وأين‎ ‎كرامة البغي وهي لا تملك رد طالب – وما يطلبها أحد إلا لأقذر معنى يمكن أن ‏تهبط‎ ‎إليه البشرية: دفعة الجسد الخالصة التي لا تلطفها عاطفة، ولا ترتفع بها روح؟ وأين‏‎ ‎من هذه ‏القذارة الحسية والمعنوية ما كان بين السادة والجواري في‎ ‎الإسلام؟‎

لقد كان الإسلام صريحاً مع نفسه ومع الناس، فقال: هذا رق. وهؤلاء‎ ‎جوار. وحدود معملتهن هي ‏كذا وكذا. ولكن الحضارة المزيفة لا تجد في نفسها هذه‎ ‎الصراحة، فهي لا تسمي البغاء رقا، وإنما ‏تقول عنه إنه " ضرورة اجتماعية‎ "!

ولماذا هو ضرورة؟‎

لأن الرجل الأوربي المتحضر لا يريد أن يعول‎ ‎أحداً: لا زوجة ولا أولاداً. يريد أن يستمتع دون ‏أن يحتمل تبعة. يريد جسد امرأة‎ ‎يفرغ فيه شحنة الجنس. ولا يعنيه من تكون هذه المرأة، ولا ‏تعنيه مشاعرها نحوه ولا‎ ‎مشاعره نحوها. فهو جسد ينزو كالبهيمة، وهي جسد يتلقى هذه النزوة ‏بلا اختيار،‎ ‎ويتلقاها لا من واحد بعينه، ولكن من أي عابر سبيل‎.

هذه هي " الضرورة‎ " ‎الاجتماعية التي تبيح استرقاق النساء في الغرب في العصر الحديث. وما ‏هي بضرورة لو‎ ‎ارتفع الرجل الأوربي إلى مستوى " الإنسانية " ولم يجعل لأنانيته كل هذا ‏السلطان‎ ‎عليه‎.

والدول التي ألغت البغاء في الغرب المتحضر لم تلغه لأن كرامتها‎ ‎أوجعتها، أو لأن مستواها ‏الخلقي والنفسي والروحي قد ارتفع عن الجريمة. كلا! ولكن‎ ‎لأن الهاويات قد أغنين عن ‏المحترفات. ولم تعد الدولة في حاجة إلى‎ ‎التدخل‎!

وبعد ذلك يجد الغرب من التبجح ما يعيب به نظام الجواري في الإسلام،‎ ‎ذلك النظام الذي كان ‏قبل ألف وثلثمائة عام – وعلى أنه نظام غير مطلوب له الدوام‏‎ – ‎أكرم بكثير وأنظف بكثير من ‏النظام الذي يقوم اليوم في القرن العشرين، وتعتبره‎ ‎المدنية نظاماً طبيعيا ً، لا يستنكره أحد، ولا ‏يسعى في تغييره أحد، ولا يمانع أحد‎ ‎في أن يظل باقياً إلى نهاية الحياة‎!

ولا يقل قائل إن هؤلاء " الهاويات‎ " ‎يتطوعن دون إكراه من أحد وهن مالكات لحريتهن الكاملة. ‏فالعبرة بالنظام الذي يدفع‎ ‎الناس بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية والروحية ‏إلى قبول الرق‎ ‎أو الوقوع فيه. ولا شك أن " الحضارة " الأوربية هي التي تدفع إلى البغاء وتقره،‎ ‎سواء كان البغاء الرسمي أو بغاء المتطوعات الهاويات‎!

تلك قصة الرق في أوربا‎ ‎حتى القرن العشرين: رق الرجال والنساء والأمم والأجناس. رق متعدد ‏المنابع متجدد‎ ‎الموارد، في غير ضرورة ملجئة، اللهم إلا خسة الغرب وهبوطه عن المستوى ‏اللائق لبني‎ ‎الإنسان‎.

ودع عنك استرقاق الدولة الشيوعية لأفراد شعبها حتى لا يملك أحدهم‎ ‎حرية اختيار العمل الذي ‏يريده، ولا المكان الذي يعمل فيه، واسترقاق أصحاب رؤوس‎ ‎الأموال للعمال في الغرب ‏الرأسمالي حتى لا يملك أحدهم سوى اختيار السيد الذي‎ ‎يستعبده‎.

دع عنك هذا وذاك، فقد تجد المجادلين عنه والمنافحين. ويكفي ما‎ ‎سردناه من ألوان الرق ‏الصارخة الصريحة، التي تتم باسم المدنية وباسم التقدم‎ ‎الاجتماعي! ثم انظر هل تقدمت البشرية ‏في أربعة عشر قرناً، بعيداً عن وحي الإسلام،‎ ‎أم إنها ظلت تنحدر وتتأخر، حتى لتحتاج اليوم إلى ‏قبس من هدي الإسلام، يخرجها مما هي‎ ‎فيه من الظلام؟‎!‎


‎[11] ‎سنناقش في الفصل التالي شبهة الإقطاع‎.

‎[12] ‎سورة‎ ‎النساء: 25‏‎.

‎[13] ‎حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي‎ ‎والنسائي‎.

‎[14] ‎حديث رواه مسلم وأبو داود‎..

‎[15] ‎أخرجه‎ ‎الطبري في كتاب " آداب النفوس " " بإسناده عمن سمع رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم‎ ‎بمنى‎ ".

‎[16] ‎سورة النساء36‏‎: .

‎[17] ‎سورة النساء 25‏‎: .

‎[18] ‎حديث رواه البخاري‎.

‎[19] ‎رواه أبو‎ ‎هريرة‎.

‎[20] ‎يعتقد الهنود أن الرقيق (المنبوذين) خلقوا من قدم الإله،‎ ‎ومن ثم فهم بخلقتهم حقراء ‏مهينون، ولا يمكن أن يرتفعوا عن هذا الوضع المقسوم لهم‎ ‎إلا بتحمل الهوان والعذاب، عسى أن ‏تنسخ أرواحهم بعد الموت في مخلوقات أفضل! وبذلك‎ ‎تضاف إلى لعنة الوضع السيِّئ الذي ‏يعيشون فيه لعنة أخرى روحية تقضي عليهم أن يرضوا‎ ‎بالذل ولا يقاوموه‎.

‎[21] ‎ذكره الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين في‎ ‎الكلام عن حقوق المملوك، في حديث طويل ‏قال إنه آخر ما أوصى به الرسول صلى الله عليه‎ ‎وسلم‎.

‎[22] ‎سورة النساء92‏‎: .

‎[23] ‎عن " العدالة‎ ‎الإجتماعية في الإسلام‎ ".

‎[24] ‎سورة التوبة: 60‏‎.

‎[25] ‎انظر الفصول التالية‎.

‎[26] ‎يقول دعاة المذهب المادي إن الملابسات‎ ‎الخارجية هي التي (تخلق) المشاعر. ونحن لا ‏نؤمن بذلك لأن فيه مغالطة صارخة. فهناك‎ ‎رصيد نفسي سابق في وجوده لهذه الملابسات، ‏والملابسات (تكيف) هذا الرصيد، لكنها لا‎ ‎تخلقه من العدم‎.

‎[27] ‎أو روسياً في بعض البلاد‎ ‎الآن‎!

‎[28] ‎رواه البخاري‎.

‎[29] ‎جاء في الموسوعة‎ ‎التاريخية المسماة " تاريخ العالم‎: Universal History of the ‎World " ‎في ص 2273 ما‏‎ ‎ترجمته: " وفي سنة 599 رفض الإمبراطور (الروماني) موريس ‏ـ بسبب رغبته في الاقتصاد ـ‎ ‎أن يفتدي بضع ألوف من الأسرى وقعوا في يد الآوار فقتلهم ‏خان الآوار عن بكرة أبيهم‎ ".

‎[30] ‎سورة البقرة: 190‏‎.

‎[31] ‎سورة الأنفال‎: 39.

‎[32] ‎سورة البقرة: 256‏‎.

‎[33] ‎شهد بذلك مسيحي أوربي‎ ‎هو السيرت.و.أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام‎).

‎[34] ‎الأمثلة على‎ ‎ذلك كثيرة منها مثالان وردا في كتاب (الدعوة إلى الإسلام‎):

قال في صفحة 58‏‎: " ‎وكذلك حدث أن سجل في المعاهدة التي أبرمها مع بعض أهالي المدن ‏المجاورة للحيرة‎: ‎فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا " وقال: " فلما علم أبو عبيدة قائد العرب بذلك‎ ‎‎(‎بتجهيز هرقل لمهاجمته) كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم بأن يردوا‎ ‎عليهم ما ‏جبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: " إنما رددنا عليكم‎ ‎أموالكم لأنه بلغنا ما ‏جمع لنا من الجموع. وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا‎ ‎لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ‏ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كتبنا‎ ‎بيننا إن نصرنا الله عليهم‎ "

‎[35] ‎سورة الأنفال‎: 61.

‎[36] ‎أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي‎

‎[37] ‎سورة‎ ‎البقرة: 194‏‎.

‎[38] ‎سورة محمد: 4‏‎.‎

‎39] ‎بذلك يخرج من دائرة الإسلام كل ما كان يأتي من الجواري – أو العبيد – عن‏‎ ‎طريق ‏الاختطاف من بلاد إسلامية ويباع ويشترى في سوق النخاسة‎.‎


المصدر : من كتاب شبهات حول الإسلام
الكتاب كامل هنا
http://www.saaid.net/book/7/1163.zip