تحسين الرسم العثماني:
كانت المصاحف العثمانية خالية من النقط و الشكل لأنَّ العرب كانوا يعتمدون على السليقة العربية السليمة التي لا تحتاج إلى الشكل بالحركات. وظل الناس يقرؤون القرآن في تلك المصاحف بضعاً و أربعين سنة حتى خلافة عبد الملك، فلمَا تطرَّق إلى اللسان العربي الفساد بكثرة الاختلاط بالأعاجم وذلك بسبب الفتوحات الإسلامية الواسعة، أحسَّ أولوا الأمر بضرورة تحسين كتابة المصحف بالشكل والنقط وغيرهما مما يساعد على القراءة الصحيحة. ويُرجَّح أنَّ أول من وضع ضوابط للعربية و تشكيل القرآن، هو أبو الأسوَد الدُّؤلي من التابعين، و ذلك بأمر من علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه وكان قد أمره بذلك زياد والي البصرة و لكنه تباطأ في بادىء الأمر إلى أن سمع قارئاً يقرأ قوله تعالى: " إنَّ اللهَ بريء من المشركين ورسولَه"
[ التوبة: 3 ]، فقرأها بجر اللام من كلمة " رسولِه " فغير بذلك المعنى كله و اصبح معنى هذه القراءة الخاطئة أن الله تعالى بريء من كل المشركين ومن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والعياذ بالله تعالى، بينما المعنى الصحيح للآية هو أن الله تعالى و كذلك رسوله صلى الله تعالى عليه و سلم كلٌّ بريء من المشركين. أفزع هذا اللحن ( الخطأ ) أبا الأسوَد فذهب إلى الوالي زياد و قال له: " قد أجبتُكَ إلى ما سألتَ ". وانتهى في اجتهاده أن جعل علامة الفتحة نقطة فوق الحرف وجعل علامة الكسرة نقطة أسفله و جعل علامة الضمة نقطة بين أجزاء الحرف وجعل علامة السكون نقطتين. وأعانه في ذلك عدد من العلماء وتبعه آخرون منهم: يحيى بن يعمر، و نصر بن عاصم الليثي و غيرهما ... فلم ينفرد أبو الأسوَد الدؤلي وحده في تشكيل القرآن و لكنه كان أول من بدأ بذلك. وكلما امتد الزمان بالناس، ازدادت عنايتهم بتيسير الرسم العثماني، فكان الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من صنَّف النقط ورسمه في كتاب و أول من وضع الهمزة والتشديد و الرَّوم و الإشمام. ومن المعلوم إنَّ علم النحو لم يُقَعَّد و يُدَوَّن إلا خدمة لضبط القرآن، حتى إنَّ معظم علوم العربية الأخرى إنما قامت لخدمة القرآن أو نبعت من مضمونه. ثم تدرج الناس بعد ذلك فقاموا بكتابة العناوين في رأس كل سورة و وضع رموز فاصلة عند رؤوس الآي و تقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب و أرباع و الإشارة إلى ذلك برسوم خاصة، و ذِكر المكي و المدني من السوَر. حتى إذا كانت نهاية القرن الهجري الثالث، بلغ الرسم ذروته من الجودة و الحُسن.