الشبهة الثالثة.
يقولون : إن السنة ليست وحياً من الله ، وإنما لفقت ثم نسبت إلى الرسول ، ولو صحت فإننا لم نؤمر باتباعها .
يقول عبد الله جكرالوي : (( إنا لم نؤمر إلا باتباع ما أنزله الله بالوحي ، ولو فرضنا جدلاً صحة نسبة بعض الأحاديث بطريق قطعي إلى النبي ، فإنها مع صحة نسبتها لا تكون واجبة الاتباع ؛ لأنها ليست بوحي منزل من الله عز وجل( ) .
وقال في موضع آخر : (( يعتقد أهل الحديث أن نزول الوحي من الله عز وجل إلى نبيه عليه الصلاة والسلام قسمان : جلي متلو وخفي غير متلو ، والأول : هو القرآن ، والثاني : هو حديث الرسول عليه الصلاة والسلام .. غير أن الوحي الإلهي هو الذي لا يمكن الإتيان بمثله ، بيد أن وحي الأحاديث قد أتى له مثيل بمئات الألوف من الأحاديث الوضعية ))( ) .
ويرى برويز : (( أنّ هذا التقسيم للوحي معتقد مستعار من اليهود (شبكتب ) المكتوب ، و(شَبْعَلْفَهْ ) المنقول بالرواية وأنه لا صلة به بالإسلام))( ) .
ويقول خواجه أحمد الدين : (( إن الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل هو الوحي الإلهي فحسب ، وهل أُمرنا بالبحث عن الوحي الإلهي في التوراة والإنجيل .. أو البخاري ومسلم أو الترمذي وأبي داود وابن ماجه .. أو مسانيد أئمة آخرين ))( ) .
الرد:
كذب عدو الله جكرالوي في المقام الأول ، وهو زعمه عدم صدور هذه الأحاديث عن النبي .
ومعنى قوله هذا : أنه لم يصدر منه غير هذا القرآن المتعبد بتلاوته .
وهذا أمر مناقض لِبَدَاْئِهِ العقول ؛ إذ كيف يُتصور أن يكون رسولاً إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً يأمرهم بما يرضي الله ويوصل إلى جناته وينهاهم عما نهى الله عنه ويوصل إلى نيرانه ، ويصبغ حياتهم كلها بصبغة هذا الدين الذي أُمر بتبليغه إليهم ثم لا يصدر منه غير تلاوة القرآن عليهم .
فدعوى جكرالوي مناقضة للعقل الصريح ومنافية للقرآن الذي يتشدقون باتباعه .
قال الله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة(الجمعة:2).، وقال عز وجل :
كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة (البقرة : 151). ، وقال سبحانه : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة (النساء :113) . وقال تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به (البقرة :231). ففي هذه الآيات إخبار من الله سبحانه وتعالى أنه أنزل على رسوله و حيين : الكتاب والحكمة ، وقد فسر أهل العلم والإيمان الحكمة بأنها سنة رسول الله ، ثبت ذلك عن قتادة ، وروي نحوه عن أبي مالك ، ومقاتل بن حيان ، ويحيى بن أبي كثير( ) .
قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : (( فذكر الله الكتاب وهو القرآن ، وذكر الحكمة فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : الحكمة سنة رسول الله ، وهذا يشبه ما قال ، والله أعلم ؛ لأن القرآن ذُكِرَ وأُتْبِعَتْهُ الحكمةُ ، فَذَكَرَ الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة ، فلم يَجُزْ – والله أعلم – أن يقال هاهنا إلا سنة رسوله ؛ وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله ))( ) .
وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : (( قد تأولت جماعة من أهل التأويل من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين ( الحكمة ) في قول الله تعالى ذكره: يؤت الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خير كثيرا (البقرة : 269). أنها القرآن ، وتأولت ( الحكمة ) في قوله تعالى : ويعلمهم الكتاب والحكمة ( آل عمران: 164). أنها السنن التي سنها رسول الله بوحي من الله جل ثناؤه إليه ، وكلا التأويلين في موضعه صحيح ؛ وذلك أن القرآن حكمة ، أحكم الله عز ذكره فيه لعباده حلاله وحرامه ، وبين لهم فيه أمره ونهيه ، وفصَّل لهم فيه شرائعه ، فهو كما وصف به ربنا تبارك وتعالى بقوله : ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة (القمر : 4-5)، وكذلك سنن رسول الله التي سنها لأمته عن وحي الله جل ثناؤه إليه حكمة حكم بها فيهم ، ففصل بها بين الحق والباطل ، وبين لهم بها مجمل ما في آي القرآن ، وعرَّفهم بها معاني ما في التنزيل ))( ) .
وأكد أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي هذا المعنى الذي سبقه إليه غيره من أهل العلم وزاده وضوحا وإشراقا فكان مما قاله : (( تأولت العلماء أن الحكمة هاهنا هي السنة ؛ لأنه قد ذكر الكتاب ، ثم قال : والحكمة ، ففصل بينهما بالواو ، فدلّ ذلك على أن الحكمة غير الكتاب ، وهي ما سن الرسول مما لم يُذكر في الكتاب ؛ لأن التأويل إن لم يكن كذلك فيكون كأنه قال: وأنزل عليك الكتاب والكتاب، وهذا يبعد ))( ) .
أما قول برويز : إن تقسيم الوحي إلى جلي متلو وخفي غير متلو مستعار من اليهود ، الأول : المكتوب ، والثاني : المنقول بالرواية ، فيقال له : ضللت في التشبيه بين المسلمين واليهود ؛ إذ يشترط المسلمون للرواية اتصال السند من مبدئه إلى منتهاه بالعدول الضابطين ، وليس ذلك عند اليهود أو عند غيرهم من أمم الكفر والشقاق .
وقد دلّ القرآن على أن هناك وحياً من الله إلى رسوله زيادة على مافي القرآن المتلوّ ، قال الله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فقد كانت القبلة في أول الإسلام إلى بيت المقدس فأين في القرآن النص على وجوب التوجه إلى بيت المقدس؟ لم يثبت هذا الأمر إلا بالسنة ، ثم نسخت بالقرآن .