ســؤال: الحكم في شرع الله تعالى أليس واحداً؟ فكيف لنا أن نأخذ بقول أكثر من إمام؟
الجواب: إنَّ الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، فإذا عمِّيَت علينا دلائل حكم شرعي وتشابهت الأدلة ولم نستطع أن نصل إلى الحكم بيقين، فإنَّ من رحمة الله تعالى بعباده أنه لا يطالبهم إلا ببذل الجهد في معرفة حكمه تعالى. مثال ذلك: الاجتهاد في القِبلة في الصلاة، هي حقيقة واحدة ولكن في حال لم تتبيَّن ولم يُتمكن لأربعة أشخاص من تحديدها جاز لكل واحد منهم أن يصلي إلى جهة ما، حسب اجتهاده الشخصي وصلاتهم صحيحة بالاتفاق حتى و لو صلى كل واحد منهم إلى جهة مختلفة عن جهة الآخر.
سؤال: يدَّعي أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام: كان بعض من هؤلاء الصحابة عندهم روح واسعة لفهم النص و كانوا يتجاوزون النص إلى ما يسميه علماء القانون اليوم بروح النص. ويقول أحمد أمين إنَّ في مقدمة هؤلاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فعمر كان عبقرياً وكان لا يقف عند حرفيّة النص بل كان يتجاوزه إلى المصالح وإلى العلل وإلى روح التشريع الإسلامي. ها هو في أكثر من حالة خالف النص و عمل بالمصلحة، مثال ذلك كما يدَّعي أحمد أمين:
1- قال الله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها والمؤلفة قلوبهم... "، عطَّل عمر سهم المؤلفة قلوبهم لما في ذلك من فهم و مراعاة لواقع المسلمين و مصلحتهم.
2- يقول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، سرق بعض الناس في عام المجاعة متاعاً فلم يقم عليم عمر الحد.
3- قضى عمر بأنَّ الرجل الذي قال لزوجته أنت طالق ثلاثاً بكلمة واحدة، تطلق ثلاثاً، و هذا مخالف لقوله تعالى: " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان "، ومخالف لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: " كان الطلاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، طلاق الثلاث واحداً، و كان ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر، فقال عمر لقد استعجل الناس في أمر كانت لهم فيه أناة فمن استعجل أناة الله ألزمناه به. فطلاق الثلاثة بكلمة واحدة يُعتبر ثلاث طلقات. ويضيف أحمد أمين فيقول، إنَّ عمر في كل ذلك إنما كان عبقرياً و ذكياً لأنه لم يتمسك بحرفية النص و إنما رأى المصلحة وجرى وراءها و إن خالفت النص و هذا هو المطلوب كما يزعم أحمد أمين.
فهل كان من بين الصحابة من كان يتجاوز حرفِيَّة النصوص و يأخذ بروح النص كما يقول بعض الناس اليوم، و يأخذ بالمصالح التي تعتمد عليها النصوص، بمعنى آخر هل كان الصحابة أصحاب نزعة تحررية؟
الجواب: كلام أحمد أمين المضلل قد يدفعنا بناءً لما تقدم إلى القول بأنَّ الربا حلال و المتاجرة بالخمر و السِّلم مع اليهود كذلك ! و أما القول أن المصلحة قد تكون في مخالفة النص من كتاب الله تعالى، فهذا كفر و العياذ بالله تعالى، لأنه من أعلم بمصلحة الناس من رب الناس، من خالق الناس الذي يعلم سرهم ونجواهم و يعلم ما كان و ما سيكون و ما لم يكن ولو كان كيف يكون. و الحقيقة أنه ما وُجِدَ قط إنسان أكثر حيطة في التمسك بالنص و حرفيته من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقد مر معنا من خلال الأمثلة التي ذكرناها سابقاً في هذا البحث كيف كان ينادي بالناس هل منكم من سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئاً في هذا ؟!!! لكن من الذي يستطيع أن يطبق النص؟ إنَّ أقدر الناس على تطبيق النص، أفهمهم للنص و أعرفهم و أعلمهم للقواعد العربية و أصول الدلالات في منطوق النص و مفهومه الموافق و مفهومه المخالف و دِلالة الخطاب و فحواه. وعمر كان من أعلم الناس بقواعد تفسير النصوص، و تعالوا ننظر معاً ماذا فعل عمر؟.
بالنسبة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..} [التوبة: 60]، هناك في اللغة العربية اسم موصول للفقراء أي للذين يتصفون بالفقر، للمساكين أي للذين يتصفون بالمسكنة، للعاملين عليها أي للذين يقومون بجباية الزكاة، للمؤلفة قلوبهم أي للذين تشعرون بالحاجة إلى أن تؤلفوا قلوبهم ... الفقراء، إن زال الفقر عنهم لن يعودوا أهلاً لأخذ الزكاة، ومناط وجوب إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم أن يشعر المسلمون أنهم بحاجة إلى تأليف قلوب من وفدوا إلى الإسلام من جديد. إذاً مناط الحكم أن ننظر إلى واقعنا، فإذا كان هذا الواقع عزيز قوي وكان من دخل في الإسلام، وحده يعزه و يغنيه و يحميه، إذا وجدنا أنَّ الأمر كذلك فإنَّ مناط دفع الزكاة إليهم ارتفع. أما إن كان الإسلام في ضعف فيكون حكم إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم عندئذ سارياً، وقد كان الإسلام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزيزاً لا بل في أعزِّ أحواله.
بالنسبة للمسألة الثانية، وهي أنَّ رجلاً سرق في عام المجاعة و كان أجيراً و علم عمر أنَّهم كانوا يبخسون حقه فقال لهم: " والله لولا أني أعلم أنكم تظلمونه و لا تعطونه حقه لقطعتُ يده "، و الآن عام مجاعة ، فجمعاً بين النصوص التالية: قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، و قوله صلى الله عليه و سلم: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم فإنَّ الحاكم لأن يخطىء في العفو خيراً من أن يخطىء في العقوبة "، و هذا قانون عام في القضاء و بدلاً من العقوبة يعزِّر القاضي المذنب ويعاقبه و لكن لا يقطع يده. إذاً عمر عمل بالنص و لكنه علم بالحديث الذي خصص الآية وقضى بموجبه و ليس كما زعم الجاهل بأنه ترك النص و تبع المصلحة التي رآها مناسبة و في ذلك دليل على أنَّ الحديث يبين و يشرح كلام الله تعالى الذي قال في كتابه العزيز: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. هذا من جهة و من جهة أخرى، فإنَّ للسرقة نصاباً حتى تُقطع يد السارق فإن سرق شيئاً قيمته دون النصاب يُعَزَّر ولا تُقطَع يده. والمبلغ الذي سرقه الرجل ربما ليس بذاك المبلغ الكبير أو احتمال أن يكون سرقه ليسد ضرورة والضرورات تبيح المحظورات.
ملاحظة: ينبغي قبل أن نطبق هذه القاعدة أن نعلم ما معنى الضرورة وما الفارق بين الضرورات والحاجيات و التحسينيات؟.