وَغَسَلَهُ: ابْنُ أَبِي زَنْبَرٍ، وَابْنُ كِنَانَةَ، وَابْنُهُ يَحْيَى وَكَاتِبُهُ حَبِيْبٌ يَصُبَّانِ عَلَيْهِمَا المَاءَ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ جَمَاعَةٌ، وَأَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثِيَابٍ بِيْضٍ، وَأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الجَنَائِزِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الأَمِيْرُ المَذْكُوْرُ.
قَالَ: وَكَانَ نَائِباً لأَبِيْهِ مُحَمَّدٍ عَلَى المَدِيْنَةِ، ثُمَّ مَشَى أَمَام جِنَازَتِه، وَحَمَلَ نَعشَهُ، وَبَلَغَ كَفَنُهُ خَمْسَةَ دَنَانِيْرَ.
قُلْتُ: تَوَاتَرَتْ وَفَاتُه فِي سَنَةِ تِسْعٍ، فَلاَ اعْتِبَارَ لِقَوْلِ مَنْ غَلِطَ وَجَعَلَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِيْنَ، وَلاَ اعْتِبَارَ بِقَوْلِ حَبِيْبٍ كَاتِبِهِ، وَمُطَرِّفٍ فِيْمَا حُكِيَ عَنْهُ، فَقَالاَ: سَنَة ثَمَانِيْنَ وَمائَةٍ.
وَنَقَلَ القَاضِي عِيَاضٌ: أَنَّ أَسَدَ بنَ مُوْسَى قَالَ:
رَأَيْتُ مَالِكاً بَعْد مَوْتِهِ وَعَلَيْهِ طَوِيْلَةٌ وَثِيَابٌ خُضْرٌ، وَهُوَ عَلَى نَاقَةٍ يَطِيْرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ! أَلَيْسَ قَدْ مُتَّ؟
قَالَ: بَلَى.
فَقُلْتُ: فَإِلاَمَ صِرتَ؟
فَقَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَبِّي، وَكَلَّمنِي كِفَاحاً، وَقَالَ: سَلْنِي أُعْطِكَ، وَتَمَنَّ عَلَيَّ أُرْضِكَ.
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: وَاخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ:
فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ، وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، وَمُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ، وَحَبِيْبٌ: إِنَّ عُمُرَهُ خَمْسٌ وَثَمَانُوْنَ سَنَةً.
قَالَ: وَقِيْلَ: أَرْبَعٌ وَثَمَانُوْنَ سَنَةً.
وَقِيْلَ: سَبْعٌ وَثَمَانُوْنَ سَنَةً.
وَقَالَ الوَاقِدِيُّ: تِسْعُوْنَ سَنَةً.
وَقَالَ الفِرْيَابِيُّ، وَأَبُو مُصْعَبٍ: سِتٌّ وَثَمَانُوْنَ سَنَةً.
وَقَالَ القَعْنَبِيُّ: تِسْع وَثَمَانُوْنَ سَنَةً.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، قَالَ: عَاشَ سَبْعاً وَثَمَانِيْنَ سَنَةً.
وَشَذَّ: أَيُّوْبُ بنُ صَالِحٍ، فَقَالَ: عَاشَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِيْنَ سَنَةً. (8/132)
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الضَّرَّابُ: هَذَا خَطَأٌ، الصَّوَابُ سِتٌّ وَثَمَانُوْنَ.
وَاختُلِفَ فِي حَمْلِ أُمِّهِ بِهِ:
فَقَالَ مَعْنٌ، وَالصَّائِغُ، وَمُحَمَّدُ بنُ الضَّحَّاكِ: حَمَلَتْ بِهِ ثَلاَثَ سِنِيْنَ.
وَقَالَ نَحْوَهُ: وَالِدُ الزُّبَيْرِ بنِ بَكَّارٍ.
وَعَنِ الوَاقِدِيِّ: حَمَلتْ بِهِ سَنَتَيْنِ.
قُلْتُ: وَدُفِنَ بِالبَقِيْعِ اتِّفَاقاً، وَقَبْرُهُ مَشْهُوْرٌ يُزَارُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيْهَا رَأَى رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَائِلاً يُنشِدُ:
لَقَدْ أَصْبَحَ الإِسْلاَمُ زُعْزِعَ رُكْنُهُ * غَدَاةَ ثَوَى الهَادِي لَدَى مَلْحَدِ القَبْرِ
إِمَامُ الهُدَى مَا زَالَ لِلْعِلْمِ صَائِناً * عَلَيْهِ سَلاَمُ اللهِ فِي آخِرِ الدَّهْرِ
قَالَ: فَانْتَبَهتُ، فَإِذَا الصَّارِخَةُ عَلَى مَالِكٍ.
ثُمَّ أَوْرَدَ القَاضِي عِيَاضٌ عِدَّةَ مَنَامَاتٍ حَسَنَةٍ لِلإِمَامِ، وَسَائِرُ كِتَابِه بِلاَ أَسَانِيْدَ، وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ مَا يُنْكَرُ.
قَالَ ابْنُ القَاسِمِ: مَاتَ مَالِكٌ عَنْ مائَةِ عِمَامَةٍ، فَضْلاً عَنْ سِوَاهَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: بِيْعَ مَا فِي مَنْزِلِ خَالِي مَالِكٍ مِنْ بُسُطٍ، وَمِنَصَّاتٍ، وَمَخَادَّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِمَا يُنِيْفُ عَلَى خَمْسِ مائَةِ دِيْنَارٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عِيْسَى بنِ خَلَفٍ: خَلَّف مَالِكٌ خَمْسَ مائَةِ زَوْجٍ مِنَ النِّعَالِ، وَلَقَدِ اشْتَهَى يَوْماً كِسَاءً قُوْصِيّاً، فَمَا مَاتَ إِلاَّ وَعِنْدَهُ مِنْهَا سَبْعَةٌ بُعِثَتْ إِلَيْهِ.
وَأَهدَى لَهُ يَحْيَى بنُ يَحْيَى النَّيْسَابُوْرِيُّ هَدِيَّةً، فَوُجِدَتْ بِخَطِّ جَعْفَرٍ: قَالَ مَشَايِخُنَا الثِّقَاتُ: إِنَّهُ بَاعَ مِنْهَا مِنْ فَضْلَتِهَا بِثَمَانِيْنَ أَلْفاً. (8/133)
قَالَ أَبُو عَمْرٍو: تَرَكَ مِنَ النَّاضِّ أَلفَيْ دِيْنَارٍ وَسِتَّ مائَةِ دِيْنَارٍ، وَسَبْعَةً وَعِشْرِيْنَ دِيْنَاراً، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
قُلْتُ: قَدْ كَانَ هَذَا الإِمَامُ مِنَ الكُبَرَاءِ السُّعدَاءِ، وَالسَّادَةِ العُلَمَاءِ، ذَا حِشْمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ، وَعَبِيْدٍ، وَدَارٍ فَاخِرَةٍ وَنِعمَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَرِفعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، كَانَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ، وَيَأْكُلُ طَيِّباً، وَيَعْمَلُ صَالِحاً، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ ابْنِ المُبَارَكِ فِيْهِ:
صَمُوْتٌ إِذَا مَا الصَّمتُ زَيَّنَ أَهْلَهُ * وَفَتَّاقُ أَبْكَارِ الكَلاَمِ المُخَتَّمِ
وَعَى مَا وَعَى القُرْآنُ مِنْ كُلِّ حِكْمَةٍ * وَسِيْطَتْ لَهُ الآدَابُ بِاللَّحْمِ وَالدَّمِ
قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ -رَحِمَهُ اللهُ- فِيْهِ:
يَا سَائِلاً عَنْ حَمِيْدِ الهَدْيِ وَالسَّنَنِ * اطْلُبْ، هُدِيْتَ عُلُوْمَ الفِقْهِ وَالسُّنَنِ
وَعَقْدَ قَلْبِكَ فَاشدُدْهُ عَلَى ثَلجٍ * لاَ تَطْوِيَنَّهُ عَلَى شَكٍّ وَلاَ دَخَنِ (8/134)
وَاسْلُكْ سَبِيْلَ الأُلَى حَازُوا نُهَىً وَتُقَىً * كَانُوا فَبَانُوا حِسَانَ السِّرِّ وَالعَلَنِ
هُمُ الأَئِمَّةُ وَالأَقْطَابُ مَا انْخَدَعُوا * وَلاَ شَرَوْا دِيْنَهُم بِالبَخْسِ وَالغَبَنِ
أَصْحَابُ خَيْرِ الوَرَى أَحْبَارُ مِلَّتِهِ * خَيْرُ القُرُوْنِ نُجُومُ الدَّهْرِ وَالزَّمَنِ
مَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم مُهتَدٍ وَهُمُ * نَجَاةُ مَنْ بَعْدَهُم مِنْ غَمْرَةِ الفِتَنِ
وَتَابِعُوْهُم عَلَى الهَدْيِ القَويمِ هُمُ * أَهْلُ التُّقَى وَالهُدَى وَالعِلْمِ وَالفِطَنِ
فَاخْتَرْ لِدِيْنِكَ ذَا عِلْمٍ تُقَلِّدُهُ * مُشَهَّرَ الذِّكْرِ فِي شَامٍ وَفِي يَمَنِ
حَوَى أُصُولَهُمُ ثُمَّ اقْتَفَى أَثراً * نَهْجاً إِلَى كُلِّ مَعْنَى رَائِقٍ حَسَنِ
وَمَالِكُ المُرْتَضَى لاَ شَكَّ أَفْضَلُهُم * إِمَامُ دَارِ الهُدَى وَالوَحِيِ وَالسُّنَنِ
فَعَنْهُ حُزْ عِلْمَهُ إِنْ كُنْتَ مُتَّبِعاً * وَدَعْ زَخَارِفَ كَالأَحْلاَمِ وَالوَسَنِ
فَهُوَ المُقَلَّدُ فِي الآثَارِ يُسْنِدُهَا * خِلاَفَ مَنْ هُوَ فِيْهَا غَيْرُ مُؤْتَمَنِ (8/135)
وَهُوَ المُقَدَّمُ فِي فِقْهٍ وَفِي نَظَرٍ * وَالمُقتَدَى فِي الهُدَى فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ
وَعَالِمُ الأَرْضِ طُرّاً بِالَّذِي حَكَمَتْ * شَهَادَةُ المُصْطَفَى ذِي الفَضْلِ وَالمِنَنِ
وَمَنْ إِلَيْهِ بِأَقْطَارِ البِلاَدِ غَدَتْ * تُنْضَى المَطَايَا وَتُضْحَى بُزَّلُ البُدُنِ
مَنْ أُشْرِبَ الخَلْقُ طُرّاً حُبَّهُ فَجَرَى * طَيَّ القُلُوْبِ كَجَرْيِ المَاءِ فِي الغُصُنِ
وَقَالَ كُلُّ لِسَانٍ فِي فَضَائِلِه * قَوْلاً وَإِنْ قَصَّرُوا فِي الوَصْفِ عَنْ لَسَنِ
عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَصْفَى عَوَاطِفِهِ * وَمِنْ رِضَاهُ كَصَوبِ العَارِضِ الهَتِنِ
وَجَادَ مَلحَدَهُ وَطْفَاءُ هَاطِلَةٌ * تَسْقِي بِرُحْمَاهُ مَثْوَى ذَلِكَ الجَنَنِ (8/136)