مثلما أن الفن تفكير في صور (حسب مقولة بلنسكي الشهيرة)، فإن الرياضة فكر في صيغ، وكما أن الفنون بشموليتها فسحة للنفس وبسط للصدور، فإن الرياضيات برصانتها هي متعة للفكر ونسغ للعقول فإذا بسطت الصورة الفنية هيمنتها على كون إذ ذاك يتلألأ بومض العقول في فيض الشعور، فإن الصيغة الرياضية ليست إلا تلخيصا لفيوضات العقول من أعلام العصور. والرياضيات إذ ذاك تبني نفسها على أساس من المنهجية المنطقية ما يسبغ عليها سمة من المرجعية يؤم شطرها سائر العلوم.
يقول لوي آلتوسر الفيلسوف في المنهج البنياني (لا ينتظر أي عالم رياضيات في العالم أن تقوم الفيزياء، حتى حيث تطبق أقسام بكاملها من الرياضيات، بالتحقق من صحة نظرية رياضية ما لتعلن أنها قد أثبتت، فحقيقة نظريته تقدمها له بنسبة 100 بالمئة معايير خالصة من داخل البرهنة الرياضية، وبالتالي معيار الممارسة للمارسة الرياضية... وفي وسعنا أن نقول الشيء ذاته عن العلوم جميعا)(1).
ومن هنا فإن الخوض العلمي في بيئة ما، لا يجعل منها بنية قائمة بذاتها إلا إذا استخلص لُبانته منها في شكل رحيق مقطر من الصيغ والقوانين الرياضية، وإذ ذاك يحرز اللبيب انطلاقا إلى كشف المكنونات الغائرة في سبيل الوصول إلى أعماق حقيقة من الحقائق من الحقائق. ولكي نزيد هذا المقال إفصاحا فإنني آتيه من خلال اكتشاف فلكي هام، ولسوف تنعمون- برهة - بجمالية الإنجاز الرياضي لقانون نيوتن الشهير في التثاقل (الجاذبية). إنها حقا صورة ينقشع فيها روعة القانون الرياضي وجماله.
من أجل ذلك فإننا سوف ننتقل إلى أجواء القرن التاسع عبر حادث فلكي هو التالي:
لاحظ الفلكيون اضطراب هذا القانون في تفسيره للسلوك الشاذ الذي أبداه (هكذا كان يبدو) كوكب أورانوس وقد كان يعد وقتئذ الكوكب الأخير في نظامنا الشمسي، حينذاك تصدى لهذه الظاهرة عالمان أحدهما الإنكليزي جون أدامس والآخر الفرنسي أربان لوفيريه - منفردين- وفي وقت واحد تقريبا فاقترحا فكرة وجود كوكب مجهول يؤثر في حركة أورانوس، وكتب كل منها إلى مرصده يقول:
(صوبوا نظارتكم الفلكية في هذا الاتجاه وستجدون هناك كوكبا)
فقال أحد الراصدين تعليقا على ذلك: (هذا محال! كيف يمكن الرجل جالس أمام قصاصات أوراقه وأقلامه أن يدلنا أين يجب أن ننظر لنجد كوكبا جديدا؟!).
والمهم أنهم اكتشفوا كوكب (نبتون) حسبما دلهم هذا الذي كان يقبع وراء دفاتر أقلامه وهم في غمرة يهمزون.
إذا فالصيغة الرياضية تخترن في باطنها مكمنا هائلا من الحقائق وأفاعيلها، ولكم كان الفيلسوف الكبير برتراند رسل محقاً عندما قال فيثاغورث (لا أعرف إنساناً كان له هذا القدرمن التأثير في عالم الفكر). ومعلوم أن الفيثاغوريين هم أول من أدرك القدرة الخلاقة الكامنة في الصيغ الرياضية، وإن اكتشافهم أن الوترين الصوتيين يهتزان بانسجام تام إذا كانت نسبة طوليهما عدداً بسيطاً قد أثبت الدور الفعال الذي تلعبه الرياضيات في فهم الظواهر الطبيعية ( والفيثاغوريون بإدخالهم الرياضيات كجزء من ديانتهم قد أوصلوا الفكر البشري إلى مرحلة هامة من مراحل التطور)(2).
وبالمناسبة فإن الفلسفة الإغريقية القديمة زاخرة بأفكار عن ماهية المادة والهيولى الأولى واللبنات المادية التي لا تنقسم والتي تدعى (الجسيمات الأولية).
والحقيقة أنها جاءت على قدم وساق في صورة من الوعي أسهمت إسهاما خلاقاً في تطور الفكر العلمي لاحقا، بل عندما نمزج أفكار فيثاغورث مع أفكار معاصريه، فإننا نصل فعلا إلى سبيكة معرفية تضم كثيرا من النظريات العلمية المعاصرة من مثل أن (الصيغ الرياضية التي تمثل الجسيمات الأولية ستكون حلولا لقانون خالد يتحكم في حركة المادة). هذا من جهة.
التدافق والألق


أقول إذا كان الفنانون والشعراء يصعدون بصورهم إلى الآفاق طليقة متلالئة في سماء العالمين، فإن الآخرين أيضا هم حقيقون بدمغ قوانينهم الرياضية بوهج الألق النقي في تناغمه مع إيقاع الكون السرمدي، في الفسيح من مناحيه. وهنا يمكن أن يقول القائل:
ولكن القانون العلمي يتخامد ألقه بتقادم الزمان عليه، وها هو ذا قانون التثاقل لنيوتن يفقد كبرياءه في السرعات القريبة من سرعة الضوء، كما أن النظرية النسبية التي شغلت الناس وأقعدتهم، لطمتها نظرية الكَمّ غير مرة، ولا يزال العلماء ينهبون العالم ابتغاء الانتهاء إلى منظومة شمولية تفك الأغلال وتكف عن التبعية للزمان والمكان، غير أن شلال القوانين والاكتشافات لا يزال يجري بنا دون الركون إلى قرار مكين.
وحدة العالم


العالم كل واحد يرفض التجزئة وانعدام جزء منها يساوي انعدامها كلها، وقد أيد الفلاسفة المحدثون، ولا سيما الفيلسوف الألماني هيغل، (أصل العضوية) وهو يقصد به أن ارتباط أجزاء الطبيعة بالكل مثل ارتباط الأعضاء بالجسم. أما الفلاسفة الالهيون فانهم كانوا ينظرون إلى هذا الارتباط عندما قالوا إن العالم هو (إنسان كبير). ومن بين الفلاسفة المسلمين كان (إخوان الصفا) أكثرهم إصراراً على هذا الموضوع، وقد نظر العرفاء بدورهم إلى الوجود والعالم بعين واحدة قبل الحكماء والعلماء.
والكائنات والمخلوقات كلها من وجهة نظر العرفاء إنما هي (مرآة للواحد):
(لما وقعت صورة وجهك في مرآة الكأس، طمع العارف متأثراً بشعاع الخمرة طمعاً لا جدوى منه، وحسن وجهك لما انعكس انعكاسا واحدا في المرآة، أوجد كل تلك الأوهام التي انبعثت من المرآة).
الخلاصة والنهاية


الحقيقة أن العلماء لا يفترون عن البحث والتنقيب في أحفوريات نظرياتهم الفيزيائية، عساهم ينتهون إلى (القانون الشمولي النهائي الذي سيكون على الأرجح معادله موجية كمومية ولاخطية تتحكم بحقل مؤثرات موجي لا يمثل إلا المادة ولا يمثل أي نوع معين من الأمواج أو الجسيمات، والمعادلة الموجية هذه ستكون على الأغلب مكافئة لمجموعة معادلات تكاملية على جانب لا بأس بها من التعقيد ولها قيم خاصة وحلول خاصة تمثل في نهاية المطاف، الجسيمات الأولية، وستكون الأشكال الرياضية هي التي تحل محل مجسمات الفيثاغوريين المنتظمة)(3).منقول

 

 

سلمت يداك د. أحمد

مقال يشكر عليه

تحياتي لك