منطقة المصب والحواجز بين البحار
• إن قضية الإعجاز تشمل المؤمنين والمعاندين في هذا العصر كما اشتملت عليهم بصنفيهم يوم نزل القرآن الكريم لأول مرة.وهكذا تتجدد الصورة من وجوه أخرى لتكون معركة التحدي ذات وجه جديد يأخذ اليوم طابع منجزات أو مكتشفات علمية ما كان لمحمد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتحدث بها أو يخبر عنها أو يتلوها على مسامع البشر قبل 1400 عام دون وحي من الله تعالى.ولقد مر بها الناس آنذاك مستسلمين لها دون إدراك لأبعادها وقوانينها حتى جاء العلم الحديث بعلمائه وخبرائه ووسائل قياسا ته وملاحظاته فكشف عن أبعاد في قضايا الخلق والمادة والجنين والجبال والبحار والنبات والحيوان والفلك ، ما أذهل العلماء حين عرفوا سبق القرآن الكريم والسنة النبوية إلى الإشارة إليها والتفصيل على نحو ما في بعض قضاياها وخفاياها.ومعجزة (منطقة المصب والحواجز بين البحار) أحد هذه المكتشفات التي تكشف عن مدلول علمي اكتشفه علماء العصر الحديث أشارت إليه من قبل آيات في كتاب الله تبارك وتعالى ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينما برزخ وحجراً محجوراً ) . وقوله تعالى : (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ) . وقوله تعالى : ( وجعل بين البحرين حاجزاً ) هذه حقائق علمية، وآراء للمفكرين والمفسرين، ما جعله أثراً علمياً نفيساً، ومحرضاً عقلياً ونفسياً فيه ما يبهر العقول ويثير النفوس، تتحرك بقلب مفتوح مقبلة على الخالق عز وجل الذي مرج البحرين وجعل بينهما برزخاً لا يبغيان . ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) . أوفى العلماء الكلام في كشف أسرار من الكون العظيم تهتدي إلى الإيمان وتعمِّق مسيرته. لا بد لكل منصف متشوق للحقيقة أن يقرأه فيرى فيه من عجائب الخلق وقدرة الصانع ما يجعله يحرص على قراءته المرة بعد الأخرى فيزداد إيماناً يفيض به على من حوله، يقدم الخير لكل من يريد له الخير. ومن هنا يبدأ الحديث الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:تضمن القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من (1400) عام بعض المعلومات عن ظواهر بحرية لم تكتشف إلا حديثاً بواسطة بعض الأجهزة المتطورة. ففي قوله تعالى : ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً ) [سورة الفرقان، الآية:53] وصف لنظام المصب، وتوضيح لامتزاج الماء العذب وماء البحر، وأن منطقة الامتزاج محمية ببعض القيود على ما يدخل إلىها أو يخرج منها. وقد برهن العلم الحديث على خواص المصب هذه. كما برهنت علوم الأحياء الحديثة على أن هذه المنطقة هي منطقة محصورة تعيش فيها بعض الحيوانات الخاصة بهذه البيئة. وبالإضافة إلى بيان وجود هذه الحواجز بين الماء العذب وماء البحر المالح فقد ذكر القرآن الكريم أيضاً وجود حواجز مماثلة في البحار نفسها قال تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان ) [سورة الرحمن، الآية: 19-20] وتشبه هذه الحواجز الحدود المائية بين مياه المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وبين مياه البحر الأحمر وخليج عدن وفي مواقع أخرى من بحار العالم. علم البحار علم حديث يعنى بمختلف ظواهر عالم البحار. وبالرغم من أن الإنسان الأول كان على صلة قوية مع الأنهار والبحار إلا أنه لم يحاول فهم هذا الحقل فهماً علمياً. إذ كان اهتمامه منصباً على التعرف على خواص الأرض التي يعيش عليها، وعلى ما يحيط به من أمور أخرى سهلة المنال. وقد ذكر الفلاسفة الأوائل قبل عهد المسيح عليه السلام بعض الآراء عن الظواهر الطبيعية إلا أنهم لم يتطرقوا إلى ذكر البحار. ومع أن المفاهيم القديمة قد كونت بعض أسس العلوم الحديثة. إلا أنه لا يوجد ذكر عن القيام بأية محاولة لفهم أسرار البحار، ما عدا بعض المحاولات حول الملاحة لتسهيل أمر رحلاتهم البحرية وتجنب مخاطرها.ولكن في نهاية القرن العشرين بدأ الأمل يزداد في فهم الإنسان للبحر عن طريق الأقمار الصناعية والتصوير عن بعد (Thurman, 1985)ويشهد التطور التاريخي في سير علم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار قبل (1400) عام، في فترة نزول القرآن الكريم على نبي أمي في أمة أمية، في صحراء جزيرة العرب، ومع ذلك فقد زخر القرآن الكريم بذكر أسرار الكون التي عرف الإنسان بعضها في عصرنا الحاضر، ومنها أسرار علم البحار، والتي منها ما يبينه هذا البحث فيما يأتي : 1- أسرار المصب والحاجز بين النهر والبحر في القرآن الكريم: قال تعالى : ( وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً ) [سورة الفرقان ، الآية: 53]. المعاني اللغوية وأقوال المفسرين في الآية : اللفظ مرج يأتي بمعنيين بارزين : الأول : الخلط قال تعالى : ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) [سورة ق، الآية:5] . وجاء في لسان العرب (أمر مريج: أي مختلط ) وقال ابن جرير الطبري: (والله الذي خلط البحرين فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه ) وأصل المرج: الخلط ومنه قول الله: (في أمر مريج) أي: مختلط.وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : ( مرج البحرين ) يعني خلع أحدهما على الآخر. وعن مجاهد: أفاض أحدهما على الآخر . وعن الضحاك بمثل قول ابن عباس وذهب إلى هذا المعنى جمهور من المفسرين منهم : القرطبي وأبو حيان والآلوسي والخازن ……. ………. والرازي والشوكاني والشنقيطي. الثاني: مجيء وذهاب واضطراب (قلق) قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: (الميم والراء والجيم أصل صحيح يدل على مجيء وذهاب واضطراب) وقال: مرج الخاتم في الإصبع: قلق . وقياس الباب كله ، منه ( ومرجت أمانات القوم وعهودهم ): اضطربت واختلطت. وجاء نفس المعنى في الصحاح للجوهري ولسان العرب وبذلك قال الزبيدي والأصفهاني . (البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) البحر العذب هو النهر، ووصفه القرآن الكريم بوصفين: عذب ، وفرات ومعناهما: أن ماء هذا البحر شديد العذوبة، ويدل عليه وصف (فرات)، وبهذا الوصف خرج ماء المصب الذي يمكن أن يقال إن فيه عذوبة، ولكن لا يمكن أن يوصف بأنه فرات. وما كان من الماء ملحاً أجاجاً فهو ماء البحار، ووصفه القرآن الكريم بوصفين (ملح) و(أجاج) وأجاج معناه شديد الملوحة، وبهذا خرج ماء المصب لأنه مزيج بين الملوحة والعذوبة فلا ينطبق عليه وصف: ملح أجاج. وبهذه الأوصاف الأربعة تحددت حدود الكتل المائية الثلاث: هذا عذب فرات: ماء النهر. وهذا ملح أجاج: ماء البحر. وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً: البرزخ هو الحاجز المائي المحيط بالمصب . فما هو الحجر المحجور؟ الحِجْر والحَجْر : هو المنع والتضييق يسمى العقل حِجْراً: لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي قال تعالى : ( هل في ذلك قسم لذي حجر ) [سورة الفجر، الآية:5] والسفيه يَحْجُر عليه القاضي من التصرف في ماله فهو في حِجْر أو حَجْر والكسر أفصح .وجاء في حديث الرسول صلى الله عليه و سلم للأعرابي: "لقد تحجرت واسعاً" رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد .قال ابن منظور: (لقد تحجرت واسعاً) أي ضيقت ما وسعه الله وخصصت به نفسك دون غيرك . ونستطيع أن نفهم الحجر هنا: بأن الكائنات الحية في منطقة اللقاء بين البحر والنهر تعيش في حجر ضيق ممنوعة أن تخرج من هذا الحجر. ووصفت هذه المنطقة أيضاً بأنها محجورة أي ممنوعة، ونفهم من هذا اللفظ معنى مستقلاً عن الأول أي أنها أيضاً منطقة ممنوعة على كائنات أخرى من أن تدخل إليها فهي: حجر (حبس، محجر) على الكائنات التي فيها.محجورة على الكائنات الحية بخارجها. ويكون المعنى عندئذٍ: وجعل بين البحر والنهر برزخاً مائياً هو: الحاجز المائي المحيط بماء المصب، وجعل الماء بين النهر والبحر حبساً على كائناته الحية ممنوعاً عن الكائنات الحية الخاصة بالبحر والنهر.ولم يتيسر للمفسرين الإحاطة بتفاصيل الأسرار التي ألمحت إليها الآية، لأنها كانت غائبة عن مشاهدتهم وتعددت أقوالهم في تفسير معانيها الخفية:فقال بعضهم في قوله تعالى: ( وهو الذي مرج البحرين ) [سورة الفرقان، الآية:53] أي خلطهما فهما يلتقيان. ويستند هذا القول إلى المعنى اللغوي للفظ : (مرج) ، وقررت طائفة أخرى من المفسرين أن معنى (وهو الذي مرج البحرين) أي (وهو الذي أرسلهما في مجاريهما فلا يختلطان ) . قال ابن الجوزي : قال المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في نجاريهما فما يلتقيان ، ولا يختلط الملح بالعذب ، ولا العذب بالملح . وقال أبو السعود : (وهو الذي مرج البحرين ) أي خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان ، من : مرج دابته: أخلاها . وبمثله قال البيضاوي والشنقيطي في أحد قوليه وطنطاوي جوهري في تفسير الجواهر . والذين قرروا هذا المعنى نظروا إلى قوله تعالى: ( وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً ) . وتقرير اختلاط الماءين يبدو متعارضاً مع وجود البرزخ والحجر المحجور. ولذلك رجح بعض المفسرين معنى الخلط . ورجح الآخرون معنى المنع.وكذلك الحال في تفسير البرزخ، فقد قرر بعض المفسرين أن برزخاً : حاجزاً من الأرض ، وبمثله قال أبو حيان والرازي والآلوسي والشنقيطي .ولقد رد ابن جرير الطبري هذا القول، فقال: (لأن الله تعالى ذكره أخبر في أول الآية أنه مرج البحرين، والمرج هو الخلط في كلام العرب على ما بينت قبل فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين، والملح الأجاج أرضاً أو يبساً لم يكن هناك مرج للبحرين ، وقد أخبر جل ثناؤه أنه مرجهما. وبين البرزخ فقال: ( وجعل بينهما برزخاً ) : حاجزاً لا يراه أحد ) . وقال ابن الجوزي عن هذا البرزخ : ( مانع من قدرة الله لا يراه أحد ) . وقال الزمخشري : (حائلاً من قدرته) كقوله تعالى : ( بغير عمد ترونها ) [سورة الرعد، الآية:2] وبمثلهم، قال الأكثرون، منهم: القرطبي والبقاعي .فتأمل كيف عجز علم البشر عن إدراك تفاصيل ما قرره القرآن الكريم.فمن المفسرين من ذكر أن البرزخ أرضاً أو يبساً (حاجز من الأرض) . ومنهم من أعلن عجزه عن تحديده وتفصيله فقال : (هو حاجز لا يراه أحد) ، وهذا يبين لنا أن العلم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه و سلم فيه ما هو فوق إدراك العقل البشري في عصر الرسول صلى الله عليه و سلم ، وبعد عصره بقرون . وكذلك الأمر في الحجر المحجور. فقد ذهب بعض المفسرين إلى حملها على المجاز، وذلك بسبب نقص العلم البشري طوال القرون الماضية.قال الزمخشري: (فإن قلت ، حجراً محجوراً ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها، وهي هنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول:حجراً محجوراً) وبمثل ما قال الزمخشري قال غيره من المفسرين كأبي حيان والرازي والآلوسي، والشنقيطي .